Share Button

بقلم / محمـــد الدكــــرورى

لقد خلق الله الجِنَّ وأمرهم بعبادته كما قال عز وجل ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ وهم طوائف ونِحَل كما هو موجود في بني آدم سواء بسواء، ولقد بعث الله إليهم رسولَنا محمداً صلى الله عليه وسلم ، إنّ الجنّ على مذاهب شتى، فمنهم المسلم ومنهم المشرك، ومنهم النصرانيّ ومنهم السنيّ ومنهم البدعيّ ، وكل نوع من الجِنّ يميل إلى نظيره من الإنس، فالمسلمون مع المسلمين واليهود مع اليهود، والنصارى مع النصارى، والفساق مع الفساق، وأهل الجهل والبدع مع أهل الجهل والبدع.

ووجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق سلف الأمة وأئمتها، ومما يدلّ على وجودهم ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: “إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنه رأى شيطاناً”

وعن جابر رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوّذوا بالله منهُنّ؛ فإنهن يريْنَ مالا ترون” ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أذّنَ المؤذِّن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قُضي التأذينُ أقبل فإذا ثوّب بالصلاة أدبر فإذا قُضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيقول اذكر كذا، اذكر كذا لِمَا لم يكن يذكر، حتى يضل الرجل لم يدر كم صلّى”.

أن الله تعالى كرم آدم عليه السلام وفي تكريمه تكريم لذريتة، فقال تعالى: وقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ، ولم يثبت مثل هذا التكريم للجان لا في الكتاب ولا في السنة فتبين بذلك أن الإنسان أشرف من الجن ، ولكن الذي يجعل الجن يطغون ويتعاظمون ويؤذون هو استعاذة الإنسان بهم وتعظيمه لهم وإكبارهم فيزدادون طغيانا، فقال تعالى فى كتابه الكريم ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ) سورة الجن .

أي طغيانا وعلى هذا فلا سلطان للجان (أي الكفار منهم والشياطين) ولا قوة لهم على الإنسان إلا إذا كان ضعيف الإيمان أو غافلا عن ربه وذكره سبحانه وبذلك يكون عرضه لعبث الشياطين به، وقال تعالى ( إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ) سورة النحل .

والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم أكرمه الله تعالى بأن ختم الله به الرسالات وأتم به النبوات ، وأنزل عليه آخر الكتب السماوية الذي هو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والجن كما مرّ معنا أنهم مخلوقون من نار ، ومع ذلك لما رزق بعضهم الإيمان رزق التأثرَ بالقرآن ، ولما ذهب نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام فرده أهلها فرجع حزينا مكلوما عليه الصلاة والسلام .

ورجع من الطائف متجها إلى مكة حتى وصل إلى واد نخلة فوقف عليه الصلاة والسلام يصلي يناجي ربه تبارك وتعالى ويدعوه ” اللهم أنت ربي ورب المستضعفين في الحديث المعروف ” فأخذ يصلي ويقرأ القرآن عليه الصلاة والسلام ، فاجتمعت الجن الطائفة التي كانت متوجهة إلى وادي نخلة ، تنظر لماذا أغلقت في وجهها أبوابَ السماء قال الله ( وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ) فوقفوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى تكالب بعضهم على بعض .

ويقول الله تعالى مصورا لذلك المشهد العظيم ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ) فالداعي هنا هو نبينا صلى الله عليه وسلم ، والذين كادوا يكونون عليه لبدا هم الجن ، فاستمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يشعر بوجودهم عليه الصلاة والسلام ، فلما انصرفوا أخبر الله تعالى نبيه بالذي كان ، قال الله تعالى ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فأمنا به ولن نشركَ بربنا أحدا ) ولهذا سميت السورة باسهم .

ثم ذكر الله تعالى الأمر تفصيلا في سورة الأحقاف فقال جل شأنه ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) وهذا فيه إشارة إلى أن أولئك الجن كانوا من اليهود ، وأنهم قالوا ( أنزل من بعد موسى ) ولم يذكروا عيسى عليه الصلاة والسلام ، وموسى إنما بعث لليهود .

ولقد أضمر الشيطان وأظهر العداوة لبني آدم، بل لقد تعرضت الشياطين للأنبياء عليهم الصلاة والسلام تريد أن تؤذيهم وتفسد عبادتهم، فعن أبي الدرداء رضي الله عنهم أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: “أعوذ بالله منك”، ثم قال: “ألعنك بلعنة الله” ثلاثاً، وبسط يده كأنّه يتناول شيئاً .

فلما فرغ من صلاته قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول شيئاً في الصلاة لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك قال: “إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامّة فلم يستأخر، ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوةُ أخينا سليمانَ لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة”

ويقول الله تعالى في سورة الحجر ( ولقد خلقنا الإنسان من حمئ مسنون ، والجان خلقناه من قبل من نار السموم ) فهذا نص قرآني يدل على أن الجن خلقت قبل الإنس ، لكن هل عمروا الأرض أو لا ..؟ وهذا سؤال عائم لا نستطيع أن نجيب عليه ، لكن هناك شواهد وقرائن ليست منطوقة لكنها مفهومه في أن الجن عمروا الأرض .

ومنها : قول الله تعالى على لسان ملائكته لما أخبرهم سبحانه وتعالى أنه سيخلق بشرا قالوا ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) وقد كثرت أقوال علماء التفسير حول هذه الآية وقالوا : أن ذلك القول من الملائكة ناجم عن أن الجن كانت تفسد في الأرض .

وأما الهيئة التي خلق الله تعالى عليها الإنس فهي جميلة ، يقول الله تعالى ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) فالإنسان مكرم في خلقه ، وقال الله تعالى ( ولقد كرمنا بني آدم ) ولهذا قال بعض العلماء كالشافعية أن الإنسان لو كانت امرأته في غاية الحسن ، ثم قال لها : أنت طالق إن لم تكوني كالقمر ، فلا تطلق المرأة بهذا القول ، لأن الله تعالى يقول ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) وهذا من ناحية الإنس .

وأما الجن فإنا لم نراهم قطعا كما قال الله تعالى ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) لكن الجن مستقر في أذهان البشر جميعا أنه قبيح الخِلقة ، وهذا يؤيده ظاهر القرآن ، قال الله تعالى عن شجرة الزقوم ( طلعها كأنه رؤوس الشياطين ) وهذا من أساليب العرب في كلامها ، فالعرب لم تر الشياطين حتى تُشبَه لهم شجرة الزقوم بأن طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، لكن استقر في الأذهان وفي طباع الأنفس عند الناس جميعا أن الجن والشياطين منهم على وجه الخصوص قبيحي الخلقة .

فعاملهم الله تعالى بنفس أساليب كلامهم ، والقرآن الكريم نزل عربيا ، فالجن في الأظهر أنهم غيرُ حسنِ الخلقة ، وقد يُقال أن هذا منصرفٌ لشياطينهم فقط وهذا قول جيد ، لكن لا نستطيع أن نجزم به ، والشيطان دل عليه أكثر القرآن لأنه لا يسمى شيطانا إلا إذا كان خبيثا خبثا معنويا ، وقد يطلق على الإنسي حتى إذا خبث شيطان ، ومنه قول الله تعالى على لسان سليمان (قال أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أن أتيك به)

ومع هذه القوة التي منحها الله تعالى لهم إلا أنهم لا يستطيعون أن يتشكلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد قال ” من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي ” فهذا الشيطان العفريت الذي يأتي بعرش من مكان إلى مكان في لحظات محدودة يعجز أن يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم .

ومن ناحية المادة التي خلق منها كل من الجن والإنس ، فمن المعلوم أن الجن خلقهم الله تعالى من نار ، والإنس خلقوا من طين لأنهما يرجعان إلى أبائهما ، فآدم خلق من تراب وإبليس خلق من نار ، فقال الله على لسان إبليس ( قال أنا خير منه خلقته من نار وخلقتني من طين ) وفي آية قال ( أأسجد لمن خلقت طينا ) .

ومن حيث القدرة على العمل والصناعة الجن أقوى من الإنس ، فهم يفْضلون الإنس من هذه الناحية ، ولهذا نجد أن القرآن الكريم في أسلوبه يفرّق إذا تكلم عن الجن والإنس في أي حديث يتحدث عنهما ، ويقول الله جل وعلا ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ويقول جل وعلا في سورة الرحمن ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) .

فنرى أن الله تعالى قدم الإنس في سورة الإسراء وقدم الجن في آية الرحمن والسبب في هذا أن آية الإسراء تتحدث عن القدرة البيانية البلاغية وهي أن يؤتى بمثل هذا القرآن ، فقدم لله تعالى الإنس لأنهم أفصح بيانا من الجن ، في حين أن آية الرحمن تتحدث عن القدرة القوية البدنية وهي النفوذ من سلطان السموات والأرض فقدم الجن على الإنس لأنهم أقدر على ذلك منهم ، ونظير هذا أيضا في القرآن أن الله تعالى لما ذكر سليمان عليه السلام قال ( وحشر لسليمانَ جنودُه من الجن والإنس والطير ) .

فقدم الجن على الإنس في هذه الآية لأن القدرة العسكرية الحربية القتالية لديهم أقوى من الإنس ، ولهذا استقر في طباع الإنس حتى قبل الإسلام أن الجن أقوياء فكانوا يهابونهم ، ومنه قول الله تعالى على لسان الجن ( وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا “) .

ولقد أعطى الله تعالى الجن القدرة على التشكل ، وهذا يؤيده حديث أبي السائد رحمه الله تعالى عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم ، وذلك أن أبا السائد وهو من التابعين دخل على أبي سعيد الخدري الصحابي المعروف ، فإذا هو يصلي ، ولما كان أبو السائد ينتظر أبو سعيد من صلاته إذ سمع حركة في عراجين البيت ، فنظر فإذا هي حية عظيمة ، فهمَّ أن يقتلها ، فأشار إليه أبو سعيد وهو فصلاته أن مكانك .

فتريث أبو السائد رحمه الله فلم فرغ أبو سعيد من صلاته أخذ بيد أبي السائد وأخرجه من الدار ، وأشار إلى دار أخرى فقال له : أرأيت تلك الدار ..؟ فإنها كانت دارا لفتى منا معشر الأنصار ، كان مع النبي صلى الله عليه وسلم بالخندق ، وكان الفتى حديث عهد بعرس ، فاستأذن الفتى النبيَ صلى الله عليه وسلم أنصاف النهار أن يأتي أهله ، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك مكر بني يهود ، فأخذ سلاحه وقدم على داره ، فوجد عروسه على باب الدار .

فأخذته الغيرة وهم أن يطعنها بالرمح ، فقالت له : أكفُف عليك رمحك وادخل الدار ، فلما دخل الدار ، وجد حية عظيمة ملتوية على فراشه ، فطعنها فاضطربت عليه ، فمات الاثنان ، الحية والفتى ، قال أبو سعيد : فلا يُدرى أيهما أسبق موتا ، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن بالمدينة إخوانا لكم من الجن ، فإذا رأيتم مثل هذا فآذنوه ثلاثا ، فإن بدا لكم أن تقتلوه فاقتلوه فإنما هو شيطان ” ، يتحرر من هذه القصة أن تلك الحية لا تخلوا أن تكون واحدا من ثلاث .

أولا .. إما أن تكون حية حقيقة فهذا يجوز قتلها بعد ثلاث ، وثانيا .. وإما أن يكون شيطانا فيقتل لأنه شيطان ، وثالثا.. وإما أن يكون جنيا فسيخرج بعد الثلاث ، فإذا لم يخرج في هذه الحالة فستبقى الحالة محصورة في اثنين : إما حية حقيقة فيجوز قتلها لأنها من الفواسق وذوات الضرر ، وإما شيطانا فكذلك يجوز قتله ، وهذا التشكل العظيم أمر لم يعطه الله تعالى لبني آدم .

فالملائكة يتفقون مع الجن في قضية ألا وهي أننا لا نراهم ، في حين أن الجن والإنس يتفقان في قضية وهي أن كلاهما مكلف ، كما أن الصورة المأخوذة عن الملائكة أنهم قوم حِسان ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه وهو جرير بن عبد الله البجلي يقول في شأنه : عليه مسحةُ ملك ، وهذا دلالة على وسامته وقَسامته ، وكذلك صواحب يوسف النسوة لما رأينه انبهرن جماله وقلن ” حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ”

لذلك استقرّ في الأذهان أن الملائكة رمز للجمال ، كما أن الجن رمز للقبح ، ولهذا مما استطرف في هذا المجال أن الجاحظ الأديب العباسي المعروف جاءته مرة امرأة وهو في السوق ، فقالت إني أريدك في أمر ما ، قال : ما لديكِ .؟ قال اتبعني ، فتبعها حتى وصلا إلى صائغ يبيع الذهب ، فوقفا أمام الصائغ ، فقالت المرأة للصائغ وهي تشير بيدها إلى الجاحظ : مثلُ هذا ؟ ثم انصرفت .

فوقف الجاحظ حائرا لا يدري ما الأمر ، فسأل الصائغ ما الأمر .؟ قال : إن هذه المرأة أتتني قبلك وطلبت مني أن أصنع لها خاتما فُصُه على شكل عفريت ، فقلت لها : إنني لم أرى العفريت قط ، فاستدعتك وأخبرتك بما سمعت ، وكان الجاحظ قبيح الخلقة .

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *