Share Button

قررت البارحة بعد أن ضاقت بيَّ الأرض بما رحبت و تداعت عليَّ الآلام و تزاحمت عليَّ الفواجع أن أزور المقابر ففي زيارتها الراحة و العبرة ، و إذ بي أُفجَع بشخص طاعن في السن يبكي بكاءً مُراً بعد أن زار رفيقة عمره و أنكرته في البداية لطول فراقنا إلا أن ملامحه بدت في وضوح بعد أن اقتربت منه فكفكفت دمعه و ربتّ علي كتفه تحنانا و تخشعا فاستعبر و بكي ثانيةً فنظرت إليه و قد فعلت تضاريس الزمان في وجهه ما فعلت و ذهبت عنه الأناقة التي كان مشهوراً بها و لما هدأت من روعه حكي لي أنه بعد أن جمع مالا كثيراً وفيرا إذ بدأ حياته العملية من الصفر و بعد أن تحمل ما تحمل من شظف العيش ، أراد أن يؤمن مستقبل أولاده و أن يجنبهم ما لاقي من متاعب في حياته فوزع ميراثه بالكامل عليهم و أعطي كل واحد منهم نصيبه ليحيىٰ حياة ناعمة إلا أنهم اجتمعوا علي هجره و نكران جميله و جحد فضله و هو في هذه السن المتقدمة يعاني ويلات الشيخوخة و يتلظي بنار الوحدة و الانعزال و يكتوي بآلام أمراض شيخوخته التي ما برحت تلازمه بعد أن فارق رفيقة عمره ، ثم زاد الطين بلة أن أولاده الثلاثة فشلوا في إدارة أموالهم بسفه بالغ في الإنفاق فيما لا ينفع من مظاهر خداعة و أنه أدرك خطيئته الكبري إذ أعطاهم مالا سهلا دون قطرة عرق فضاعت أدراج الرياح و لو كانت قد وصلت إليهم بكد اليمين و عرق الجبين لحافظوا عليها و لزادت و بُورِك فيها
و هنا تذكرت أن مقاتل بن سليمان دخل علي الخليفة المنصور حين بُويع بالخلافة فقال له الأخير عِظني يا مقاتل ؟
قال : أعظك بما رأيت أم بما سمعت ؟؟
قال : بل بما رأيت
قال : أن عمر بن عبد العزيز أنجب أحد عشر ولدا و ترك ثمانية عشر ديناراً ، كُفِّن بخمسة منها و اشتري له قبرا بأربعة و وزع الباقي علي أبنائه .
و أن الخليفة هشام بن عبد الملك أنجب أحد عشر ولدا و كان نصيب كل ولد من التركة ألف ألف دينار ذهبي و أنه رأي في يوم واحد أحد أبناء عمر بن العزيز يتصدق بمائة فرس للجهاد في سبيل الله و أن أحد أبناء هشام بن عبد الملك يتسول في الأسواق و يلبس خرقاً بالية
و أن عمر بن عبد العزيز لما سؤل و هو علي فراش الموت
ماذا تركت لأبنائك يا عمر ؟؟
قال: تركت لهم تقوي الله فإن كانوا صالحين فالله يتولاهم و إن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم علي معصية الله
فزفر صديقي زفرة كأنها الجحيم المستعر و قال عمي أولادي عن طريق الحق و عميت بصائرهم عن النظر و صاروا سفهاء حمقي لا يحسنون التصرف فأساؤوا إلي أنفسهم و إليه و أضاعوا الدنيا و خسروا الآخرة ، فَذَكّرته أن الأمان العظيم في تقوي الله و الكسب من عرق الجبين و كد اليمين و مكابدة الآلام و تذليل الصعاب من أجل لقمة العيش الحلال
فالله تعالي يقول في محكم التنزيل:

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) النساء (9)

هكذا ضاع هؤلاء السفهاء الأوغاد ، فمارسوا مع أبيهم أقصي درجات العقوق و مارسوا مع المال الذي ورثوه دون جهدٍ أعلي درجات السفه فكانوا من الخاسرين ، كما أخطأ الأب الرحيم فيما فعل و ما كان أغناه لو التزم الجادة _ بأن عَلَّمهم التقوي و علمهم كيف يحافظون علي ما اكتسبوا من مال حلال _ عن خيبة ظلت تلحق بساحتهم و ترين علي صفحتهم
و قد رُويَ أن إبنة عمر بن عبد العزيز دخلت عليه تبكي يوم العيد و تشكو أنها لا تجد ثوباً جديداً ، فتأثر عمر لبكائها فذهب إلي خازن بيت المال يطلب إليه تعجيل راتبه عن الشهر القادم فقال له الخازن لا مانع شريطة أن تضمن ليّ ان تبقي حياً للشهر القادم فتركه عمر و عاد فلما سأله أبناؤه ماذا فعلت يا آبانا ؟؟
قال أتصبرون و ندخل جميعا الجنة أم لا تصبرون و يدخل أباكم النار
قالوا : نصبر يا آبانا.

حيا الله عمر و أبناء عمر و خازن بيت المال و رحم صديقي الشيخ الكبير و ألهمه الصبر علي مصاعب الحياة و عافانا من السفه و الحمق و العقوق

المستشار : عادل رفاعي 🌹❤️

10 /9/2022

Share Button

By ahram misr

رئيس مجلس ادارة جريدة اهــــرام مــصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *