Share Button

الإرهاب .. وغيبة الوعي الديني

د. مجدي إبراهيم

لقد مَرَّتْ مصر كما مَرَّتْ بعض البلاد العربية بفترة عصيبة من الإرهاب الأسود اللعين تحولت فيها طاقات العنف في الرأس المطموس إلى عداء دموي، واختلط الرأي إزاءُها مع الدم في لغة شريرة مُنَفِّرة إلى أن أصبحت دماراً ينسف صاحبه نسفاً، تماماً كما ينسف الأبرياء ممّن لا ذنب لهم ولا قوة على ملاقاة هذا الإثم الطائش والفجور الغشيم. ونظراً لأن رأس الإرهابي رأسُ مطموس شرير؛ فهو لا يتفاهم ولا يتحاور ولا يقيم لغة مشتركة بينه وبين الآخر، ولا يفتح قناة إيجابية تقوم على البصيرة، وتعلى من شأن الوعي، وتغذي روافد الشعور بمطالب الإنسانية والإحساس بالآخرين.

والإرهاب أشكالٌ وألوان؛ يبدأ باللفظة النابية والنظرة القاسية والإحساس المتبلد والكلمة الجافة والشعور المجدب والجلافة الفكرية والتسلط على خلق الله في البيت والشارع والمسجد والعمل والحارة والأسواق؛ وينتهي باللعنة الغاضبة على الآدميين وغير الآدميين؛ لتكون اللعنة تدميراً  للناس والأشياء والأحياء، وتفجيراً لطاقات العنف البغيض كيما تنال دماء الأبرياء، فيختلط الفجور الآثم مع الأشياء المتناثرة مع الدم البريء في صورة مفزعة مهولة تقشعر لها أبدان الجلاميد ..!!

إنما الإرهاب قصة نفس ملوثة؛ إذْ الإرهاب هو الإرهاب سواء في الشرق أو في الغرب : الشرقيون إرهابيون بالدين؛ والغربيون إرهابيون بالعلم. لو لم يكن الإرهاب بالدين لكان الإرهاب بأي فكر سواه.

الإرهاب “قصة نفس” مُلوَّثة، قد لا تكون لها علاقة بالدين ولا بالأفكار، هذا إذا نحن نظرنا إلى المستوى الاجتماعي من حيث أن الدافع للإرهاب تربية وبيئة غير سوية بامتياز. صحيح أن الأفكار تنبت في بيئة قابلة بحكم طبيعتها أن تغذي الإرهاب وتنميه. وصحيح كذلك أن هنالك أفكاراً عنيفة متطرفة في الدين إلى درجة الإرهاب، لكن المشكلة ليست في الفكرة بمقدار ما هى في حاملها وهو العقل المفكر.

فالعقل هو الذي يفرز الفكرة يقبلها أو يرفضها، ينقدها أو يتركها، تعمل في وعيه بغير نقد حتى تصبح جزءاً من مكوناته الأساسية. والأفكار التي تعمل في طبع الإرهابي إنما هى أفكار تمر على عقل معطل ـ أو يكاد ـ عن الوعي والتفكير؛ تنشط فيه الأفكار الهَدَّامة فتعمل عملها السلبي فلا ينقدها بل يتركها بغير نقد ولا تفنيد.

فالملاحظ أن دعوات العنف تُفرَّغ من مضمونها الديني لتُعبأ بمضمون فكري آخر غير الدين، ولا يزال العنف والجنوح التدميري وفكرة السيطرة والاستحواذ أموراً باقية كما هى لا تتغير، سواء في الذين رفعوا لواء الدين أو الذين رفعوا لواء العلم. فلئن كان الشرقيَّون إرهابيين بالدين والغربيون إرهابيين بالعلم؛ فإنّ التسامح الخالص هو أيضاً “قصة نفس” سَوِّية.

ــ مواجهة الأفكار :

رَسَمَ المسلمون  أنفسهم (بعضهم لا كلهم) عن عقيدتهم التي يدينون لها بالولاء صورة شوهاء تنمو في زمن التسلط على الأفكار حين تخفي الحريات وتزول، ولا تكاد تجد لها شعاعاً من ضوء؛ الأمر الذي تسبب بالقطع في “فقر الفكر”؛ كما سَمَّاه في السابق أديبنا الراحل “يوسف إدريس” : (فقر الفكر وفكر الفقر)، أدَى هذا الفقر الفكري إلى إفساد الحياة الفكرية والثقافية والدينية فساداً قلَّ أن يعالج.

فظهرت حركات في الأجواء الإسلامية فتحت الطريق أمام الاستبداد بشتى معانيه بعد أن سلكت سبيل التقليد وسدَّت منافذ الحرية .. يعني أن هذه الحركات لها أصول فكرية وثقافية في تراثنا العربي الثقافي الإسلامي، لكنها كانت ومازالت آفة هذا التراث؛ لأنها تسعي دائماً لتكون ضد كل فكرة مستنيرة تكبِّل العقل وتقيِّد الفكر بقيود من حديد، وتعامل الإنسان بكل أغلال التَّحَجُّر والتخلف والرجعية والبلادة والنكوص. ثم ماذا ..؟! ثم تحمل على عاتقها الواهن عبء الوصاية على الدين، حتى إذا ما جاء دورها في الإسهام الفكري أخذت تصور دين السماحة والإخاء بصورة تدعو إلى التعصب والشقاق، مع أن الدين في ذاته علاقة خاصَّة مخصوصة بين العبد وخالقه، والذي يتأمل معي خريطة الفكر الإسلامي، يجد تياراً متشدداً في منطقة سوداء داكنة، هو سبب التخلف العقلي والتدهور الفكري ومعاداة الآخر المختلف ومباغضته، إنْ لم يكن سبباً مباشراً للإرهاب بكل معانيه، تُغَذِّيه الأفكار الرجعية، ويعتمد على التقليد، ويرفض حيوية العقل وحرية التفكير، وله في كل بقعة أنصار وأتباع ..!

والذين يعتنقون هذا الاتجاه من جهلة المسلمين هم الإرهابيون حقاً ..!! وهم الذين مع شديد الأسف ينكسون رايات الحرية والمحبة والإخاء والمساواة، ويرفعون رايات القهر والتسلط والعنف والكراهية بين أفراد الإنسانية. فقبل أن نتصدى للإرهاب المسلح، علينا أن نزيل من الرؤوس المطموسة تلك الأفكار الظلامية المتخلفة؛ بمعنى أنه علينا أن نبذل قصارى ما في وسعنا في رعاية العملية التعليمية والتربوية التنويرية، فالمطلوب إزكاء الوعي والطرْق الدائم على فاعليته الكبرى. وقبل أن نسارع بالرفض والاستهجان، علينا أن نلوم أنفسنا؛ لأننا منحناها القدرة على مهادنة العقول المفتقرة إلى أدنى خصائص العقلانية والاستنارة. وقبل أن نواجه “القوة الصلبة” ممثلة في الأسلحة الثقيلة المتطورة ـ تقليدية كانت أم غير تقليدية ـ  أحرى بنا أن نواجه “الفكرة”، فمازلنا ـ وأيم الله ـ بصدد الأفكار في منأى وخمول وكسل واعتزال.

أقول؛ علينا أن نزيل من الرؤوس المطموسة تلك الأفكار العفنة البالية، الضالة المضللة، التي تركب موجة العنف المدمر والكراهية الحمقاء، وتزج بالإسلام : قِيَمَهُ، وأخلاقه، ومعاملاته، وسماحته، وعقائده الرفيعة المنزهة عن لوثة التحريف والتخريف، في حرب دينية بلهاء لا مبرر لها، تفتقر إلى عوامل النضج الفكري وفهم الحقائق المستوحاة من ملابسات الحياة وروحيَّة الدين الإسلامي الحنيف.

لكن الإسلام في ذاته بمعزل عن الذين يفهمون منه هذا الفهم السقيم. الإسلام في ذاته وَحْدَة في دين الله، وأخوُّة ومحبة وسلام وتسليم. وفي الحق إنَّا لنَعْجَبُ كل العَجَب ويعجب معنا كل ذي بصيرة من أولئك الذين يُنفِّرون الناس من خالقهم الذي أخبر عن نفسه أن رحمته وسعت كل شيء .. كل شيء .. وبغير استثناء شيء دون شيء، وأنه يختص برحمته من يشاء بفضله، ولم يقل قط أنه أختص بنقمته من يشاء ..!

ــ من ذكريات الماضي البغيض :

منذ الأيام الأولى التي حكم فيها الإسلاميون مصر بعد ثورة 25 يناير 2011م، وآل الحكم إلى (جماعة الإخوان المسلمين) لم يكن لذي مَسْكَة من عقل أن يرى ما يرى فيما يشهد أمامه ثم لا يفكر فيما يراه : كيف صار هذا الأمر للإخوان في غفلة من الزمن؟! وكيف أختطف الإخوان ثورة 25 يناير بتلك البساطة؟!

كان لزاماً على من يتابع الأحداث ـ أو حتى مَنْ لم يتابعها! ـ أن يدلوا بدلوه فيما هو أمامه، وكان لزاماً على الجميع أن ينتفض معبراً عن سخطه وغضبه؛ الأمر الذي أسفر ـ بعد سنة من هذا الحكم الذي اتخذ من الدين مطية للوصول إلى غاياته الترابية ! ـ عن ثورة 30 يونيه 2013م .

ثورتان قام بهما الشعب المصري أنهكتا قواه الروحية والفكرية والاجتماعية فوق ما هو منهك اقتصادياً. وظهر على الساحة عبر وسائل الاتصال الإلكترونية ما ينبئ بكارثة محققة نتيجة للفهم الخاطئ للدين؛ إذْ ذَاك كان هنالك أكثر من (2 مليون) ملحد من بين أبناء الشعب المصري المعروف بتدينه الفطري وعراقته لحب الله ورسوله وآل بيته، وتساءل المتسائلون في ذلك الحين : في تلك السنة الكبيسة المهينة الذليلة قبل (30 يونيه 2013م) تساءلوا في دهشة وريبة : لمَ كل هذا الهجوم على الإخوان؟ هذا الهجوم الذي كان في الأصل عند البعض هجوماً على “الدين” نفسه، هكذا من غير تفرقة بين اتجاه فيه واتجاه، ولا بين الدين والتدين، ولا بين الإسلام والمسلمين !

يومها تحقق لدينا أن عمر هذا الحكم في بلادنا قصير جداً؛ لسبب بسيط جداً وهو : (فقدان مبدأ الشراكة الوطنية!)، واستناد هذا المبدأ لديهم على احتكار الحقيقة المطلقة وزعمهم على الملأ امتلاكها، وأن الإسلام هو الدين الذي تصوره لهم أنفسهم وكفى.

كيف يتأتى لهم أن يحترموا بساطة أولويات الشعب وهم أصلاً عقليات عنصرية استعبادية (Exclusionist)، بمعنى أنهم لا يعطون اعتباراً للوطن، ولكنهم يتحركون من أولويات “الجماعة”، الجماعة التي أودت بالمصريين إلى المجاعة؟!

لمَّا جاءت أول وآخر حكومة بعد تولي الرئيس “محمد مرسي” المسئولية، عملت ـ بإيعاز من توجيهات عليا! ـ على إقصاء الكفاءات الاقتصادية والسياسية في إطار التمكين لمشروع أخونة الدولة، إنْ لم تكن عملت على إقصاء الكفاءات في سائر المجلات وتقليص أنشطتها الحيوية، وبدلاً من أن تكون الفكرة المُوجّهة هى تكاتف القوى الوطنية لإنقاذ انهيار البلاد اقتصادياً، اعتمدت القوة الإخوانية وحدها طريقة الإقصاء لغير الإخوان، ولو كانوا شركاءً في المواطنة، فضلاً عن الكفاءة، واعتبرت كل من هو غير إخواني عدواً لها شخصياً، فسقطت بالتالي فكرة الشراكة الوطنية وهى من أهم دعائم العمل الديمقراطي الحر.

ليس في العقلية الإخوانية أصلاً مثل هذه “الشراكة”، وليس فيها فكرة التكاتف الوطني والاستعانة بأهل الخبرة والعلم والكفاءة. أمَا وَقد ملكوا زمام الحكم فليس من سبيل لهم سوى أن يكونوا هم وحدهم دون سواهم مثالاً للتخطيط السلبي وفقدان الرؤية المستقبلية، مع وضوح الضبابية الاستراتيجية القائمة على التخبط ثم السقوط.

الإخوان هم أوَّل من بذروا بذور العَسَف والإرهاب في الفكر العربي المعاصر. وهم أوَّل من شكلوا التنظيمات السّريَّة بقيادة عبد الرحمن سندي وبأوامر من حسن البنا شخصياً! واصطدموا مع الجيش المصري في سنة 1954م بعد أن كونوا ميلشيات منظمة لإحداث الفوضى. وهم أوَّل من شرْعَنوا الاغتيالات لمن يخالفهم وجهة النظر أو يخرج عن قواعد “الجماعة” الهدَّامة، أو يخرج عن ضوابطها الإرهابية.

وهم أوَّل مَنْ مزقوا صفوف المصريين وقسموا البلاد وفرَّقُوها وطعنوا “الوطنية المصرية” في مقتل حين فضَّلوا مصلحة الجماعة” على مصلحة مصر؛ تمكيناً لمشروع أخونة الدولة. وهم أول من جسدوا شعور البغضاء للطوائف والأقليات من أصحاب الديانات الأخرى، لا بل من الفرق الإسلامية الأخرى المخالفة لهم في طريقة التفكير.

وهم أوَّل من أيَّدوا التوريث في نهاية حكم مبارك وأعطوه مذاقاً خاصَّاً من عندهم يتلون بتلون مصالحهم الغامضة الملفوفة بالغموض والسرية والتكتم.

وهم أوَّل من سَرَقَ الثورة المصرية وأنقضَّ عليها وكتم أنفاس الثوار الحقيقيين رغم أنهم جبناء ليسوا ثوَّراً بطبيعتهم، ولكنهم استغلالية من الطراز الممتاز، وتاريخهم الأسود يقول إنهم يجيدون الصعود على أكتاف الآخرين !

وهم أوَّل من برَّر الكذب تحت غطاء شرعي وتاجر بالدين في تزوير الانتخابات صَرَاحة وضمناً حينما أوْحُوا لبسطاء المواطنين أن “نعم” تدخل الجنة و”لا” تدخل النار، وفرضوا عليهم أن يختاروا إمِّا الرجل المصلِّي المتدِّين وإمّا الكافر العلماني !

وهم أوَّل من حشد الناس من الأرياف في العربات كالمواشي ورشوهم بالزيت والسكر والأرز والبطاطس والنقود وأضلوهم باسم الدين !

وهم أول من أبتدع في الدعوة منهج التَّنطُّع و”السَهْتَنَة الدينية” لاستمالة العامة من فقراء الفكر والشعور وإرهابهم بالدين، ومخالفة الباطن لما يتولونه للظاهر في الأقوال والأفعال .. وهم أوَّل من أستحق عن جدارة نعت “الخرفان” في الحياة السياسية المصرية المعاصرة بغير منازع؛ لانسياقهم بغير استقلال فكري أو عقدي قطيعاً وراء تعاليم المرشد. وهم، فوق هذا كله، أوَّل من احتكر لغة الخطاب الديني طمعاً في امتلاك الحقيقة المطلقة، وهو عنصر من أهم العناصر وأخطرها على وجه الإطلاق.

هذه الأوليات تفقد الثقة بالمطلق لدى العارفين بفلسفة التاريخ فيما سيأتي تباعاً من تخطيط الإخوان إنْ صحَّ أن يكون لهم تخطيط وطني ملموس.

ــ بين الفكرة والعقيدة :

في ذلك الحين كنا نتمنى ـ لكثرة أحاديث الإخوان عن الجنة والنار! ـ أن يسأل الإسلاميون أنفسهم عن مصير جهنم لمن عَسَاهَا تكون؟ قد يدخلونها داحرين، وقد يُشهدنا الله عليهم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه؛ مسؤولية من هذا التشنج بالدين، وهل من طول الذقن ـ لا من حكمة العقل! ـ جعل الإسلام فكرة في حين أنه “عقيدة”؟!

الفرق بين “الفكرة” و”العقيدة” هو أن الفكرة تُقبل وتُرفض بمعنى أنه إذا كان من حقك أن تقبلها فمن حقي أنا أن أرفضها .. بإمكاني أن أرفض العلمانية مثلاً أو الشيوعية أو الاشتراكية أو الليبرالية أو ما شئت أن تضيف، أرفضها وأنا مطمئن إلى رفضي إيَّاها، ولن يحاسبني الله على رفضها أو قبولها؛ لأنها أفكار بشرية نابعة من عقول فكرت ودَبَّرَت ورأت أن يكون سبيلها في هذا المذهب أو ذاك. والإسلام ليس كذلك ـ يا من سميتم أنفسكم بالإسلاميين! ـ واحتكرتم عن جهل أو عن غفلة حقيقة الإسلام تفكيراً وتعبيراً.

أي نعم! ليس من حقي أن أختلف مع العقيدة ما دُمْت قد أخترتها طواعية لا إكراه فيها؛ “ولا إكراه في الدين”. وليس بالإمكان ولا هو بالمستطيع أن يرفض المرء ديناً منزلاً من عند الله كان قد ارتضاه عقيدة منذ البداية ثم يختلف معه ويقول : وجهة نظري في هذه الجزئية كذا وفي تلك كيت !

إذا أنت فعلت ذلك تساوي ـ عن جهل أو عن غفلة ـ بين ما هو بشري وما هو إلهي؛ أو بين ما هو قابل للنقد والاختلاف وما هو مقدّس لا يقبل النقد ولا يقبل الاختلاف معه بحال. وتلك جريمة في حق الإسلام : أن جعله الإخوان ـ حين أطلقوا على أنفسكم بالإسلاميين ـ يقبل الرفض ممّن أرضتاه ديناً؛ لأنهم مع عبادة أنفسهم وأهواؤهم قد سووا بين الإسلام وسائر الأفكار البشرية المرفوضة بالعقل أو المقبولة؛ يعني من الممكن رفض الإسلام من جهتهم شأنه في ذلك أي فكرة بشرية أخرى، هذا الرفض هو الذي أظهر على الساحة اليوم نزعات الإلحاد الطاعنة في الدين نفسه بين أبناء المصريين.

وهذه هى الكارثة التي ستدخلهم جهنم داحرين : أن نفَّروا خلق الله من رحمة الله، وأطلقوا ذُقونهم وغيَّبوا عقولهم! يحسبونها هينة : دخول الجنة عندهم ذقن طويل وجلباب قصير ! على الرغم أن الله لا ينظر إلى الصور ولا إلى الأشكال، ولكنهم هم أبعد خلق الله عن نظر الله الحقيقي : فقه القلوب التي هى موضع نظر الله.

سرقوا الثورة المصرية، وانقضُّوا عليها، وحبسوا فرسانها الحقيقيين من الشباب المستنير : ولمّا أن آل إليهم حكمها ضربة لازب قَسَّموا الأمة الواحدة إلى شيع وأحزاب، وكرّهوا الناس في الدين بطلعتهم البهية يومياً، بمناسبة وبغير مناسبة، على شاشات الفضائيات! مناقشاتهم عنف وعراك وجدل وخصومة، تظهر فيها السخائم السوداء وتثير شعور البغضاء بين أبناء الدين الواحد، وبدلاً من أن تجّمع تُفرّق : تمزق وتقسم !

والإسلام دين الوحدة لا التفرقة. أطلقوا على أنفسكم مصطلح “الإسلاميين”؛ أو أطلقه عليكم خصومهم السياسيين، سيان لا فرق! لكأنما اختزلوا الإسلام كله في الذقن الطويل والجلباب القصير مع مجموعة لا بأس بها من الأفكار الإرهابية المتخلفة الظلامية السوداء، وجعلوها عَلماً على الإسلام، مع أن هذا الخط الأسود الإرهابي الظلامي المتخلف صنعه في التاريخ رجال مثل أي أحد منهم، رجال خَرَّجوا الدين تخريجاً معوجاً كسيحاً يخطئون فيه ويصيبون ليس ملزماً لأحد إلا لهم هم فقط دون سواهم. عادوا القضاء وتعدوا على حرمته وحاصروا رجاله ومؤسساته؛ وزوَّرا في الاستفتاء، وكرهوا كره العمى إخواننا المسيحيين في المواطنة، وحاربوا الإعلام والإعلاميين وقذفوهم بأقذع القبائح، وحاصروا الصحافة ورجال الرأي والمثقفين وأهل الفكر والفن والأدب والثقافة. وضربوا بالقوى الوطنية عرض الحوائط أجمعين .. ماذا بقى من قوة مصر “الناعمة” لم ينعتوها قدحاً باسم الإسلام عاراً ـ والإسلام منها براء ـ بنعوت يندى لها جبين الشرفاء.

أتدرون ما المشكلة في خطورة حكم الإخوان؟ إنه سيرجع بنا حتماً إلى تخلف العصور الوسطي، وستتمركز جميع السلطات في يدهم تماماً كما كانت متمركزة في الغرب الأوروبي في يد الكنيسة، يوم أن نشأت فيه العلمانية (Secularism) مميزة بين عمل الدين وعمل الدنيا، لتنادي بالفصل بين السلطات الثلاثة التي تمركزت في يد الكنيسة ورجال الدين المسيحي إذْ ذَاَكَ، أعني (سلطة الدين، وسلطة السياسة، وسلطة العلم)؛ وسيتحول الإسلام النقي الطاهر السمح على أيدهم إلى كهنوت أسود، وسيظهر في المجتمع ـ بعد خنقة الناس ـ مَنْ يثور فيه ثورة كاسحة ومدمرة تأكل الأخضر واليابس فيطالب بفصل الدين عن السياسة ـ رغماً عن أنوفهم ـ بمقدار ما يطالب بفصل السلطات بعضها عن بعض واحترام استقلاليتها .. هم هم ـ وليس غيرهم! ـ من سيجعل الذي حدث في الغرب باسم الدين سيحدث في عصورنا المعاصرة : أعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر؛ ولكن قيصراً عندنا ـ ياولداه! ـ لا يريد إلا أن يكون هو هو الله !

ــ تدني ذوق الخطاب الديني :

كان هذا هو الرأي الذي أستقر لدينا يومها مكتوباً في حينه، إبّان الفترة العصيبة التي حكم فيها الإخوان مصر. ولم يكن هذا الرأي ليتشكل لدينا إلا لسبب واحد هو الأهم ـ  في تقديرنا ـ من بين جميع الأسباب التي ساعدت على تكوينه، وأعني به السبب الفكري : احتكار الحقيقة المطلقة والتدني بذوق الخطاب الديني إلى أسفل درجة، واتخاذ الإسلام من قبل مطية للوصول إلى السلطة؛ بحيث يجيء الدين اعتبارياً هو العَرض الظاهر، ويكون الوصول إلى السلطة حقيقياً هو المقصد الأصلي.

ولا شك كانت تلك الأوليات تفقد الثقة في معتقدات الإخوان الدينية؛ لأنها لا تحرك السلوك إلى التقدم والبناء، بل هى معتقدات لا تصدر عن إيمان حقيقي بالإسلام مغروس بجذوره الباطنة في البناء الخاص للشخصية الفردية؛ كما تكشف هذه المعتقدات عن أنهم لم يستطيعوا التمييز بين عقيدتهم الرسمية وعقيدتهم الحقيقية.

فالعقيدة الحقيقية لديهم أنهم عَبَدة سلطة، وهذه العبادة للسلطة مُحققة في أغوار شخصيتهم الباطنة لكنها خفية، مستورة، سرية غير معلنة. فالدين الحقيقي لديهم هو عبادة السلطة؛ غير أنهم في نفس الوقت يَدْعُونَ إلى دين الجماعة من خلال الإسلام. فإذا الإسلام لديهم بمثل هذا العقل الدعوي المجدب هو الدين الرسمي ليس إلا أيديولوجية. والسلطة هى الدين السري الخفي المستور غير المُعلن.

ومن هنا جاز لنا أن نقول ما قلناه في نهاية تلك الأوليات : إنّ معتقدات الإخوان الدينية فضلاً عن السياسية تفقد الثقة بالمطلق لدى العارفين بفلسفة التاريخ فيما سيأتي تباعاً من تخطيط الإخوان إنْ صحَّ أن يكون لهم تخطيط وطني ملموس .

ــ ذهبوا إلى “العار والازدراء الأبدي” !

ما استطاعوا أن يمنعوا عن أنفسهم اختلاق الكذب حين زعموا أنهم مسلمون صحيحو الإسلام؛ بإثارتهم الفتنة واغتصابهم للسلطة وذبحهم للأبرياء وتشريدهم للأطفال وقتلهم لهؤلاء الذين لا يملكون حيلة يدافعون بها أمامهم عن إرادتهم الضعيفة المسْتَلبة؛ وهم بذلك قد ضربوا ـ من حيث يشعرون أو لا يشعرون ـ “السلام الإسلامي” في مقتل.

لقد كانت دعوة الإسلام منذ أقدم العصور التي جاء فيها مواجهاً أكبر قوتين عظيمتين في العالم خلال القرن السابع الميلادي، الأول الهجري : قوة الروم البيزنطيين، وإمبراطورية الفرس الأكاسرة، وهما إذْ ذَاك أكبر قوتين في العالم، كانت دعوة الإسلام دعوة عملية سلوكية أخلاقية ترحم الكبير وتعطف على الصغير وترأف بالناس أجمعين، والرأفة محبة؛ والحب أسمى علاقة إنسانية تزكيها رحابة السلام الإسلامي : الله محبة؛ ودين الله قائم في الأساس على الحب. والحب فاعلية تطبيقية مثمرة، ولم تكن دعوته دعوة نظرية حاجبة للعمل محلِّقة في الآفاق البعيدة عن المنالات التطبيقية. فالذي يكفي الناس من الإسلام هو السلوك العملي، وشريعتا تقول : الدين المعاملة. وبهذه المثابة صارت الدعوة في الإسلام دعوة عملية خُلقية تطبيقية لا تركن إلى نظر مجرَّد عن اللواحق العملية.

لقد كان الدين الحقيقي لديهم هو الوصول إلى تلك السلطة. ولم تكن عقيدتهم قياساً إلى هذا الهدف بشيء : مجرد رسوم. أما الدعوة فوسيلة ليس إلا ..!

العقل الدعوي هنا هو الوسيلة التي تحتكر الخطاب الديني تمهيداً للقفز على السلطة والتمكين فيها وحرمان الغير منها ومن المشاركة فيها بوجه من الوجوه. إنه اغتصاب للحقيقة واحتكار للغة الخطاب الديني وتشنيع بالإسلام بشع يتنافي مع أبسط مبادئ الإسلام. من أجل هذا؛ يجيء هذا الحكم في نقاطه المعنونة أعلاه؛ ليعالج المسألة الفكرية التي كانت سبباً ـ في تقديرنا ـ في تدني ذَوْق الخطاب الديني حين يُحْتَكر من جانب من يَدَّعُون امتلاك الحقيقة المطلقة أو يقفزون عليها ابتغاء مصالحهم الشخصية الخاصة.

بقلم : د. مجدي إبراهيم  

Share Button

By Ahram.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *