Share Button

الإمام الجُنيد .. سيد أولياء الإسلام (5)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

في إطار فهم “الجنيد” لآية الميثاق، نلاحظ أن “القشيري” أحصى في تفسيره “اللطائف” عدّة معاني، يفهم منها الصوفية معنى آية الميثاق كلُّ بذوقه وفتوحه. ومن معاني التفسير لهذه الآية المباركة : أن الله خَاطب الناس قبل أن تكون الخلائق – وهم في عالم الذَّر –  فأجابهم بتحقيق العرفان. وأن الله تعالى لطف بعباده، فمنهم من أقرَّ التوحيد، ومنهم من أبعده عنه فأقر الجحود، وأن قلم القضاء جرى على طوائف البشر فخَصَّ بعضهم بمعرفته، وحجب عنها آخرين.

وأن الله أخصَّ المقربين منه فأطلعهم على حقيقة التوحيد، ومنهم من آتاه الحجة فعرف الوحدانية عن طريقها، ومنهم من صدق اليقين في قلبه فتحقق من الوحدانية، ومنهم من غابت عنه الوحدانية فأجاب بالظن والتخمين. وأن الله تعالى تجلى عليهم بالهيبة وتلطف بالقربة، وفي تجليه دُنو المعرفة وفي تلطفه خطابات التأنيس.

وأنه تعالى أطلع عباده على مكاشفة أسراره؛ فعرفوه بالتي كلّفهم بها، عرفوه بأحكام التكليف؛ ولمَّا أنْ تجلى لهم الحق؛ وهم بعدُ في عالم الذَّر، كاشفهم بجماله فهاموا في حبه، فإذا المحبة غاية ما ينتهي إليه المقربون.

وأنه أسمعهم بشاهد الربوبية : فمنهم من آثر الصحو فتحقق؛ ومنهم من زَاَلَ عنه التحقيق بعد المحو والاستغراق. وأنه أختص قوماً بأنواره فوصلوا إليه، وَحَرَمَ آخرين من أسراره فلم يجعلهم أهلاً للوصول.

ذلك ما استطعنا استخراجه من نص القشيري بعد تأمل طويل؛ وفيه ما يفيد تركيز هذا الصوفي الأصيل البارع على أحكام التكليف، وعلى إيثاره الصحو (والصحو تنبيه ويقظة وحضور) سبيلاً إلى التحقيق. ولنقيد هنا بعض ما جاء في نص القشيري تأكيداً من جانبنا على ما كُنَّا أستخلصناه منه؛ إذْ يبدأ حديثه بإشارة رمزية مبطونة ببيتين من الشعر حول الإخبار بالعهد السابق والود اللاحق والوعد الصادق وفي معناه أنشدوا :

سُقْيَــــاً لليلي وَاللَّيالي التي        كُنـَّا بليْلي نلتقي فيها

أفْدِيـــكِ بل أيامُ دَهْري كلهـا        يَفْدِيـنَ أيَّامَاً عَرَفْتُك فيها

ثم يعطي القشيري إشارة لكل معنى يريده ويرى فيه وجهة إدراك ذوقي ويقدِّمه بكلمة “ويُقال ..!”؛ ولا تترك كلمة “يُقال” هذه، انطباعاً لدى القارئ بأن القشيري ينقل عن آخرين قولهم ممّا يجوز معه أن يُقال في قولهم كيت وكيت؛ لا ليس الأمر هنا حكاية عن أقوال آخرين، ولا هو بنقل لآراء يتجهل أصحابها، ولا هو بالافتراض الذي يفترضه؛ ليستنبط منه دلالة أو نتيجة، ولكنه وجوه باطنة تحتملها معطيات الإشارة، هى من تخريج القشيري نفسه؛ يُقدّم فيها معنى ليلحقه بآخر ويصوِّر دلالة ليصلها بدلالة أخرى مما ينتظم في وعيه مما تعطيه الإشارة. وهكذا ممّا تتلون به الإشارات وتتعدد في أنفاس العارفين؛ كأن يقول :” ويُقال : فأجابهم بتحقيق العرفان قبل أن يقع لمخلوق عليهم بصر أو ظهر في قلوبهم لمصنوع أثر، أو كان لهم من حميم أو قريب أو صديق أو شفيق خبر، وفي معناه أنشدوا :

أتاني هَوَاهَا قَبْلَ أنْ أعْرِفَ الهَوَى     فَصَادَفَ قَلْبَاً فَارِغَاً فَتَمَكَّنَا

ويُقال : وسم بالجهل قوماً فألزمهم بالأشهاد ببيان الحجة فأكرمهم بالتوحيد وآخرين أشهدهم واضح الحجة. ويُقال : تجلى لقوم فتولى تعريفهم فقالوا “بَلَى” عن حاصل يقين، وتفرَّد عن آخرين؛ فأثبتهم في أوطان الجَحْد فقالوا “بلى” عن ظن وتخمين. ويُقال : جمع المؤمنين في الأسماء، ولكن غاير بينهم في الرتب، فجذب قلوب قوم إلى الإقرار بما أطمَعَها فيه من المباد، وأنطق آخرين بصدق الإقرار بما أشهدهم من العيان وكاشفهم به من الأسرار. ويُقال : فرْقة ردَّهم إلى الهيبة فهاموا، وفرقة لاطفهم بالقربة فاستقاموا ..

ويُقال : عرَّف الأولياء أنه مَنْ هو فتحققوا بتحصيلهم، ولبَّس على الأعداء فتوقفوا لحيرة عقولهم .. ويُقال : أسمعهم؛ وفي نفس ما أسمعهم أحضرهم، ثم أخذهم عنهم فيما أحضرهم، وقام عنهم فأنطقهم بحكم التعريف، وحفظ عليهم – بحسن التولي – أحكام التكليف. وكان – سبحانه – لهم مكلفاً، وعلى ما أراده مصرِّفاً، وبما أستخلصهم له مُعَرِّفاً، وبما رَقّاهم إليه مشرفاً. ويُقال : كاشف قوماً في حال الخطاب بجماله, فطوَّحهم في هيجان حبه؛ فاستمكنت محابُّهم في كوامن أسرارهم، فإذا سمعوا اليوم سماعاً تجدَّدت تلك الأحوال؛ فالانزعاج الذي يظهر فيهم لتذكر ما سلف لهم من العهد المتقدّم. ويُقال : أظهر آثار العناية بدءاً حين أختص بالأنوار التي رَشَّت عليهم، قوماً. فمن حَرَمَهُ تلك الأنوار لم يجعله أهلاً للوصلة، ومن أصابته تلك الأنوار أفصح بما أختص به من غير مقاساة كُلفة …”.

هذه المعاني الواردة هى (أولاً) إشارةً في تفسير الآية القرآنية، تنفي اعتماد المتصوفة على أفلاطون أو على التراث اليوناني، وتصل الاعتماد مباشرة بفهم التحقيق في القرآن الكريم. وهذه المعاني الواردة في لطائف الإشارات هى (ثانياً) تثبت بما لا يدع محلاً للشك نظرتنا في “المضمون الديني” ينتسب إليه صوفية الإسلام في انطلاقاتهم الروحية حياةً وتجربةً وممارسةً.

    *    

عندي أن الذين فتح الله عليهم بمعرفة شيء من كتابه الكريم، كانوا في الأصل يحبُّونه ولا يرون فوقه ولا قبله ولا بعده كتاب. إنهم أحبوا الكلمة الخاصة المُخَلَّصة في كتاب الله وصدقوا في هذا الحب مقدار صدقهم في معاملة الله فأعطاهم من عنده نوراً يمشون به في الناس؛ وذلك لأنهم رأوا النور فأتبعوه؛ رأوه في جوف الكلمة الصادقة :”ومن أصدق من الله حديثاً”، ورأوه في بطن الفكرة الباقية :”ويجعلُ الرِّجس على الذين لا يعقلون”، ورأوه في غور المعنى الوفير :”واتقوا الله ويعلمكم الله”؛ فلَّما أن أحسوا بمثل هذا النور يملأ جوانحهم انجذبت قلوبهم إليه وتعلقت أرواحهم به وترقَّت مشاعرهم فيه فاقتبسوا منه قبساً كان سبب سعادتهم طيلة حياتهم في الدنيا، ثم في الآخرة سعادة الأبد؛ وزيادة. وربما كانت الشعلة المقتبسة من ذلك النور الشعشعانيِّ مجرد “لحظة خالصة”، لكنها خاطفة؛ أعني لحظة ذات معنى مُوغل في “الإخلاص” تنير السبيل فيما يُشْبهُ الخطفة السريعة، وليست هى بمجرد لحظة خاوية من امتلاء المعنى الضخم الكبير.

نعم ..! إنها مجرد لحظة، لكنها لحظة امتلاء لا لحظة فراغ، إنها ليست سوى لحظة ينفتح فيها عالم الملكوت، فكلُ ما يجيء بعدها إنْ هو إلا أثر باقي من آثارها، ومددٌ من جذوتها النورانية، تشتعل لتضيء حياة صاحبها في طولها وعرضها : صاحب تلك اللحظة السعيدة التامة الكاملة؛ تنالُ هبةً من عين التوفيق.

إنها للحظة صدق في مرائي الشهود، لا تتحقق بغير مكاشفة صريحة من “وعي الذات” بنفسها وبربها بداية .. هنالك يعمل “النور” عمله في الحالة التي يمتلئ بها الوعي بيقين الإيمان والتحقيق؛ فيكون النور في جميع الحالات محركاً للرؤية الكاشفة : رؤية البصر ورؤية البصيرة؛ لتتجاوز هذه “الرؤية” كل حجاب عارض لا يقبل الزوال؛ فينكشف لها ما من شأنه أن يكون ظلمة للمحجوبين؛ لكأنه لا شيء! وذلك لأنها (أي ظلمة المحجوبين هذه) رؤية الذين انطمست بصيرتهم وبصائرهم فلم يروا إلا ما هو تحت أقدامهم من بوادي المحسوس. أما رؤية الذين استظهروا النور في قلوبهم، فأشرقت به جوانحهم حتى لكأنهم “أنوراً ذاتية” تشع بذاتها فتجيء آثارها في أقوالهم وأفعالهم؛ فإذا بأقوالهم تجيء تعبيراً عن أحوالهم، وإذا بأحوالهم تعكس أقوالهم؛ لكأنما “الحال” هو الذي يتحدث وهو الذي يقول، فهم في الحقيقة التي يشهدون فيها الأثر مَجْلىَ من مجاليها أهلاً لتلقي النور في كل حال. وهنا تتجلى لنا خصائص التصوف وسماته المتفردة كونه نوراً فيما تظهره إشارات كبار الأولياء :

كان الشبلي يقول – فيما رواه عنه ابن عربي  إشارةً في محاضرة الأبرار – عندما سُئل عن التصوف .. ما هو ؟ فأجاب :” التصوف عندي ترويحُ القلوب بمراوح الصفاء، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسَّخاء، والبشر في اللقاء “.. وهى صفات في مجملها تصدر عن النور وترتد إليه، وتجعل من شخصية صاحبها شخصية نورانية بامتياز.

هذه خصائص أربع للتصوف كلها نور على نور؛ فالخاصية الأولى لا تتأتى بالمطلق بغير النور : الصفاء الذي تترَوْحَن فيه القلوب وتستروح؛ إذْ تجد الروح والراحة في صفائها. والتصوف بغير صفاء كدورة نفس وظلمة قلب وقسوة طباع، ليس يطلق عليه في الأساس – على الأقل في تقديرنا –  لفظة تصوف.

والخاصية الثانية : تجليلُ الخواطر بأردية الوفاء، هى التي تعطي النور حقه من التحقيق بعد التطبيق؛ فالوفاء لحقوق الله نورُ كله تظهر آثاره على الجوارح بعد ثبوتها في قلب الوافي؛ فلا يَزَالُ خاطره جليلاً إذا هو وفَّى بحق ربه عليه؛ لكن هذا الحق عسير جداً –  أو هكذا يبدو لمن ليس بوافي – فشعور العبد إزاءه بالتقصير يجعل من خواطره السانحة في ملكوت الرحمة تحلق في مقام الجلال على الدوام، ورداء الوفاء بهذا الحق نفسه خاطرُ جليل يُلزم الصوفي نوراً مُهَاباً : هو نور صدق الفكرة في معنى الجلال.

والخاصية الثالثة : التّخلُّق بالسخاء حين تشحُّ النفوس بما لديها وهو ليس لها ولا هو منها؛ فإذا لم يكن السخاء خُلقاً لها وطبعاً؛ فليكن تخلقاً تمضي في خلاله إلى النور تطبيقاً وتحقيقاً؛ فما من سخي هو سخي إذا عرف من السخاء شكله البَرَّانيِّ دون أن يَمَس شغاف قلبه تحقيقاً، وينفذ إلى صميم وجدانه ليتخلى عن كل حرص بما في يده غير جوَّاد؛ والصوفي سخي فرح على الدوام بفضل الله، والسخاء طبع الصوفي وعادته غير منازع؛ لأنه رمز التصوف بإطلاق؛ فهو من النور وإلى النور على التحقيق.

والخاصية الرابعة : البشرُ في اللقاء؛ صفة من صفات العارف غير منازع فيها، فهو الذي يبشر ولا ينفِّر؛ هو الودود الحَبُّوب الذي لا يعرف قط كراهية لخلق الله؛ لأنه يفهم عن الله حكمته في خلقه ويعرف علة الخير كما يدرك علة الشر؛ يبشِّر لأنه يرى النور في الباطن ويدركه ذوقاً من الأعماق.

مَنْ غير العارف من خلق الله يرى بنور الله؟! مَنْ غير العارف تتوافر فيه تلك الصفة؛ صفة البشر في اللقاء ..؟!, إذْ العارف – كما قال ابن سينا في الإشارات والتنبيهات :”هَشُّ بَشُّ بَسَّام..!” فتلك الهشاشة والبشاشة والتَّبَسُّم خَصَالُ العرفان التي لا يجمعها إلا أهل النور القلبي والبصر الذوقي، أهل الصفاء والنقاء والتصاقي والموالاة : صفوة أهل الله من العارفين .. وقليلُ مَا هُم.

تحقيق العارف على الدوام يكمن في شيء واحد لا شيء سواه : “التجربة” : التجربة تقول لك ما لا يقوله الواقع المقرر ولا الخيال الجامح الطليق؛ فهذا الواقع المقرر ليس هو واقعك أنت؛ بل هو واقع آخرين عبروا عنه، وكما أن هذا الواقع هو واقعهم فكذلك الخيال الذي يصورون فيه ما يشاءون هو خيالهم هم لا خيالك أنت؛ لكن تجربتك أنت وحدك هى المُرادة هنا من فعل التجربة.

ويمكننا أن نقتبس من تحقيق العارف قبَسات في تجربته الشهودية فيما يمر به من إدراك لتلك اللحظات لعَلَّها تَقفنا على “اللحظة” التي نريدها خالصة لأنفسنا، ونتمناها كيما تجيء فتعْمُر العمر كله فتباركه وترفعه وتزكيه. هنالك في فعل التجربة؛ تقف وحدك حراً طليقاً على “اللحظة” الرابطة بينك وبين الوجود الحق الذي تمنيته وتمنيت أن تتصل به، وسترى أن هذه اللحظة هى أسعد ساعات السعادة عندك، وإنه لا يدانيها مطلقاً لحظات وجودك الماضية ولا الحاضرة، إنْ استطعت أن تُسَكِّنها فأفعل؛ لأنها اللحظة التي تستشعر فيها تجليات الدوام من الأزلية إلى الأبدية، لكأنك وقفت بمُفْرَدك على معاينة السرمدية التي لا أول لها ولا آخر؛ وأنت إذْ ذاك في سعادة غامرة واتصال روحي عجيب، تنفرد به وحدك ولا يشاركك فيه مخلوق كائناً مَنْ كَاَنَ !

وما من عجب ..! فإنها وقفة شبيهة “بوقفة” النِّفَّريّ، ومن جرى مجراه من الواقفين عليها من السعداء. هنالك تدرك بالذوق الروحي أن الوجود الواقعي أقل منك وأحقر؛ وأنه دونك، صغير، “كما الهباء في الهواء إنْ فتشته لم تجده شيئاً”؛ لأنك بلغت منزلة ما بلغها أحد من أولئك الذين يتنافسون فيها على كل رخيص، وإنك لأعرف العارفين من هاهنا بفقه اللحظة الحاضرة، تلك التي اتّسع لها صدرك فعرفت فيها الكثير من دلالات الوجود ومعانيه، لا .. بل من حقائقه وخوافيه. عندها ستعذر الحلاج، إذْ تَبَدَّت له شمس الحقيقة فجذبته فصرخ فقال فيها :”أنا الحق”؛ وعندها سيأخذك العطف على شيخنا أبي يزيد البسطامي لما قال :” سبحاني؛ سبحاني ..!!.. ما أعظم شأني ..”.

كانوا مثلك أصحاب لحظات فارقة؛ كانوا أهل وقفات في لحظات؛ بيد أنها كاشفة. شطحوا بعيداً عن معقول الناس، وما هو معقول الناس في عرف الناس؟ الإفلاس ..! الإفلاس في القيم العلوية : قيم القرآن، وقيم الله في كلمات الله.

لا شك كانت تلك “اللحظة”؛ هى التي وَسَّعت صدرك وفتحت نوافذ قلبك وجمَّعت همتك كيما تدرك وتعلم من الله ما لا يعلمه أهل الغفلة والحجاب. هنالك فقط متَّسعُ لمزيد من المعارف ولعزيز من العلوم، تتلقاها من علو وارتقاء، وأنت من “الحضرة” قريب دان؛ يكفي أن تتوحد معها لتشعر فيها بالقربة والاتصال.

ويا للعجب من السعادة التي تغمر روحك في غيبة الكل عنك وغيبتك عن الكل، وتوحدك مع الكل وتوحد الكل معك؛ أعْرَفُ الناس مَنْ عَرَفَ نفسه فيها : اللحظة التي يغيب فيها الكل عنك، ويكون الكل معك. في غيبة الكل تخلى، وفي كون الكل معك تحلياً وتجلياً. إنّ الله ليتجلى على قلوب عباده في كلامه بخطابات التأنيس ليقتربوا منه، يدنيهم دنو معنى، ويرقيهم رقي معنى؛ ليفهموا عنه منه؛ وهو حين يدنيهم – يلحظوا مراقي أنفسهم أو لا يلحظوها يستشعروا قربها أو لا يستشعروها – لكن عُرُوجَهُم الوَاصب أبداً لهو لحظة تتفتح فيها نوافذ القلوب وتشرق لاستقبال الحقيقة من قريب؛ ليس الحقيقة كلها بل قبسُ منها، هو الشعاع المضيء لظلمة الغفلة والحجاب.

هنالك نورُ علوي ينبعث من “كلمات الله”؛ يدنو منك في لحظات الاتصال؛ يهيئوها لك فعل الترقي والتطهير، ويعز عليك استقباله بغير تطهُّر واستعداد : التّصافي شرطه، وأصله موالاة مصدره وخدمته؛ فلما أن سئل عنه قال :” نورُ أنَّى أراه “. الصفاء والاستعداد والتأهب للترقي، خَصَالُ من يريد أن يكون داخل المعيّة لا خارجها، واجتماع الخصال وسائل موصِّلة لكنها ليست الغاية؛ فالغاية هنالك بعيدة بعيدة، بيد أنها قريبة؛ بل أقرب ما تكون مع الإحسان. ودوام البقاء مع الوسائل ظلمة حاجبة، والفراغ منه مطلوب في ذاته؛ ليتفرّغ السرُّ لورود “اللحظة”.

وإنها “اللحظة” النورانية الكاشفة تشع من باطن القلب، يَنْغَمرُ فيها النور؛ ليعطيك من فورك ما لا يخطر لك على بال : يعطيك السلامة في الحس وفي الذوق وفي الوعي وفي الإدراك. وإذا أدركت اللحظة النورانية العجيبة أدركت السعادة كلها طمأنينة قلبية لم تعد تزلزلك بعدها الزلازل من حولك ولا التهاويل؛ أدركت الدلالة وأدركت القيمة وأدركت من عالم القيم القرآنية مُوحياتها ممّا ليس يدركه الغُفْل الجهول.

ليس عبثاً ذلك الذي تحسَّه، وليس شعورك في هذه الحالة باللهو الذي ينقضي معه الزمن أو يقضي هو على الزمن؛ فلو أنه كان كذلك لكنت في غيبة وحجاب، أي كنت في غيبة عن اللحظة؛ لكنك في حيرة من أمرك : على أي وصف يمكن أن يكون حالك؟ لست تجد لورود اللحظات عليك تفسيراً ولا تعليلاً، أنت هاهنا خارج نطاق التفسير والتعليل؛ أنت معه بكليتك. ومعيّة الكلية لا تستلزم وصفاً ولا تقتضي شرحاً. الكلية بقاء تريدُ فيه من خالص قلبك أن تُسَكّن الزمن لحظتها؛ يدوم ولا ينقطع؛ ولكنه رغماً عنك ينقطع فلا يدوم، وانقطاعه حجاب، مع بقاء اللحظة حاضرة في “عين اليقين”.

كثيرون من أهل الله تمنوا لو دامت لحظات وصالهم فما احتجبوا، لكن الحجاب لطيف معنى به تحيا قلوب العاشقين؛ إياك أن تظن أن الحجاب عن “اللحظة” نقيصة، وأن الغفلة في ذاتها هنا رذيلة؛ فهذا ظن الغافلين؛ بل حجبك ليكملك وليعطيك استعداداً أعلى من استعدادك الأوَّلَانيِّ وأفْضَل؛ لتكون بخصوصية اللحظة جديراً وبالحضور معه على غاية التأهب والاستعداد. وإذا كانت الاستعاذة من شر الغفلة واجبة شرعاً؛ فهى في رياض التحقيق جائزة على الذين لو اقتربوا لتَاهُوا فما عادوا؛ وأن الحجاب في مقام التحقيق ليس ألا معنى لطيف به تحيا قلوب العارفين. الاستعاذة من شر الغفلة واجبٌ للحفاظ على التكاليف الشرعية، ووجوب الغفلة في الدنو والقربة واجب كذلك يحفظ شرعية التكليف. فالغفلة هاهنا صحو للعقل وحضور للتمييز؛ بقاء بعد فناء؛ يقظة بعد غيبة؛ ولو أنها غارت واختفت لغار معها العقل وغاب التمييز؛ فما يبقى إلا التخليط. التخليط الذي يظنه العقلاء محض جنون وضرب هوس يقتضي القتل والتنكيل.

من أجل ذلك؛ صار “ذُلُّ الحجاب” أهون بكثير من العبث الذي يصفه العقلاء بالجنون ويقيمون عليه الحد؛ ليقتل من يقتل، وينكل به من ينكل،،هنالك تجد عاطفة الوجدان وحرارة العاطفة وحدها تعطي التصرف ولا تجد العقل ذا تصريف. إنّ أرقى مراقي السعي دوماً إلى الحقيقة شعورنا الدائم بالنقصان عن بلوغها، والعجز عن الاتصال بها، والإقرار بضعف القدرة عن إدراكها، لكنها لو شاءت لشئنا، وإذا شئنا ترقينا في أنفسنا لنحوز آيات القبول .. عجباً لإدراك الغافلين .. ما بالهم يحتجبون ..!!

(وللحديث بقيِّة)

بقلم : د. مجدي إبراهيم

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *