Share Button

بقلم / محمـــد الدكــــرورى

هو عامر بن عبد الله بن الجراح القرشي الفهري، أبو عبيدة، مشهور بكنيته وبالنسبة إلى جده، وأمه أميمة بنت غنم ، ولد سنة 40 قبل الهجرة ، وكان رجلاً نحيفًا معروق الوجه، وكان أبو عبيدة رضي الله عنه من السابقين الأولين إلى الإسلام، وقد عُرف الصحابي أبو عبيدة الجراح بالزهد والأمانة والقيادة كما أنَّه كان من الصحابة الذين طبقوا مبدأ الشورى ويظهر ذلك في موقفه مع جنده عند احتشاد الروم لاستعادة أرض الشام .

ولقد عاش أبو عبيدة ما يقرب من نصف عمره في الجاهلية، فلم نجد في مدونات التاريخ ما يدل على حياته ووجوده، فلما أسلم بزغ نجمه وذاع اسمه، وعلا صيته، وقد رافق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مكة حوالي عشرة أعوام، ثم هاجر إلى المدينة، وصاحب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، في المدينة عشر سنوات، ولم يكن يشغله عن حضور مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا خروجه في سرية يغيب فيها عن المدينة أسبوعًا أو شهرًا .

وقد أسلم أبو عبيده عامر بن الجراح ، في اليوم التالي لإسلام أبي بكر رضي الله عنه، وكان إسلامه على يدي الصديق نفسه، فمضى به وبعبد الرحمن بن عوف وبعثمان بن مظعون وبالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلنوا بين يديه كلمة الحق، فكانوا القواعد الأولى التي أقيم عليها صرح الإسلام العظيم.

وهاجر أبو عبيدة إلى أرض الحبشة فيمن هاجروا إليها من المسلمين، إلا أنه لم يُطِل المُكث بها، فقد عاد إلى مكة مرة أخرى، ثم هاجر إلى المدينة بعد ذلك، ونزل على كلثوم بن الهدْم الأوسي، وبعد وصول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، إلى دار الهجرة، آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين أبي عبيدة وبين أبي طلحة.

وإن الأوسمة إنما توضع على صدور الرجال تشريفاً وتكريماً لهم في الدنيا والله أعلم بمن يستحق الشرف، أما أوسمة النبي صلى الله عليه وسلم فهي أوسمة صدق وعدل وخيري الدنيا والآخرة، وقد حمل أبو عبيدة أعظمها شرفاً وأزكاها عند الله، كيف لا يعطيها النبي أبا عبيده وهو الذي قال فيه وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ” نِعْمَ الرجل أبو عُبَيْدَة بن الجَرَّاح ”

وعن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أبو بكر. قلت: ثم مَن؟ قالت: عمر. قلت: ثم من؟ قالت: ثم أبو عبيدة بن الجراح. قلت: ثم من؟ قال: فسكتت.

وقد أحبه حب النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم له ومن ثناؤه عليه ، أنه روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نِعْمَ الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أسيد بن حضير، نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح” .

وما كان الصحابة يسعون ويسابقون إلا لنيل بركة ودعوة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وشهاداته الصادقة فهذا عمر بن الخطاب عندما طلب أهل اليمن الأمين قال: “ما تعرضتُ للإمارة، وما أحببتها، غير أنَّ ناسًا من أهل نَجْرَان أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكوا إليه عاملهم؛ فقال: ” لأبعثن عليكم الأمين “. قال عمر: فكنتُ فيمَن تطاول ، رجاء أن يبعثني، فبعث أبا عُبَيْدَة”.

وبعد تولي عمر الخلافة حفظ لأبي عبيدة هذه المنقبة فقد ولاه الأمارة وأعطاه القيادة العامة بل وقد أحبه حباً عظيماً حتى قال يومًا لجلسائه: تمنوا، فتمنّوا، فقال عمر: “لكني أتمنى بيتًا ممتلئًا رجالاً مثل أبي عبيده بن الجَراح” ، وأبو عبيده لم يفارق خياله ولا وجدانه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا هديه ومنهجه، وتشوقت نفسه للحوق به فكان على نهجه من ترك للدنيا والتقلل منها ليخف الحمل وتسير النفس إلى الله سيراً سريعاً، وقد تعرض لأبي عبيده ليرى أخاه على ما يحب ويرضى.

وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، فقال النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: ” أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعليّ في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة”.

وفي السنة الثامنة للهجرة أرسل الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى أرض بَلِي وعذرة في غزوة ذات السلاسل، ووجد عمرو بن العاص رضي الله عنه أن قوة أعدائه كبيرة، فأرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يستمده، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس من المهاجرين الأولين، فانتدب أبو بكر وعمر في آخرين، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح مددًا لعمرو بن العاص رضي الله عنه.

فلما قدموا عليه، قال عمرو رضي الله عنه: أنا أميركم ، فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين ، فقال: إنما أنتم مددي ، فلما رأى ذلك أبو عبيدة رضي الله عنه، وكان حسن الخُلق، متبعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، فقال: تعلم يا عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: “إن قدمت على صاحبك فتطاوعا”، وإنك إن عصيتني أطعتك.

ومن زهده رضى الله عنه ، أنه قد أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم وأربعمائة دينار، وقال لرسوله: انظر ما يصنع؟ فقسّمها أبو عبيدة رضي الله عنه، فلما أخبر عمرَ رسولُه بما صنع أبو عبيدة بالمال، قال: “الحمد لله الذي جعل في الإسلام من يصنع هذا”.

وكان رضي الله عنه من القادة الذين يستشيرون رجالهم في كل خطوة يخطونها، وعندما تحتشد الروم لاستعادة أرض الشام استشار أصحابه، فأشار عليه الأكثرية بقبول الحصار في حمص، أما خالد فأشار عليه بالهجوم على جموع الروم، ولكن أبا عبيدة أخذ برأي الأكثرية.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريدان أن يلاعناه. قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيًّا فلاعلنَّا، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلاً أمينًا، ولا تبعث معنا إلا أمينًا. فقال: “لأبعثن معكم رجلاً أمينًا حق أمين”. فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “قم يا أبا عبيدة بن الجراح”. فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذا أمين هذه الأمة”. رواه البخارى

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت أبا بكر رضي الله عنه يقول: لما كان يوم أُحد ورُمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر، فأقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنسان قد أقبل من قِبل المشرق يطير طيرانًا، فقلت: اللهم اجعله طاعة حتى توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قد بدرني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر إلاَّ تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو بكر رضي الله عنه: فتركته. فأخذ أبو عبيدة بثنية إحدى حلقتي المغفر فنزعها وسقط على ظهره، وسقطت ثنيَّة أبي عبيدة رضي الله عنه، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيَّةٍ أخرى فسقطت، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم ، أى أهتم .

وكان رضي الله عنه ممن ثبت مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وقد أسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزع الحلقتين من المغفر اللتين دخلتا في وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد بعث أبو بكر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه هلُمَّ حتى أستخلفك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن لكل أمة أمينًا، وأنت أمين هذه الأمة”. فقال أبو عبيدة رضي الله عنه: ما كنت لأتقدم رَجُلاً أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤُمَّنا ، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة: ” قد رضيت لكم أحد هذيْن الرجلين”، يعني عُمر وأبا عبيدة.

وعن أبي جمعة حبيب بن سباع قال: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، قال: فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟! أسلمنا معك، وجاهدنا معك. قال: “نعم، قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني”.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “لم أكن مغيرًا أمرًا قضاه أبو عبيدة ” وأول كتاب كتبه عمر رضي الله عنه حين وَلِي كان إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد رضي الله عنه، إذ قال له: ” أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمرهم الذي يحق عليك .

ولما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خالد بن الوليد رضي الله عنهما وولّى أبا عبيدة رضي الله عنه، قام خالد رضي الله عنه وقال للناس: ” بُعث عليكم أمين هذه الأمة”. وقال أبو عبيدة رضي الله عنه للناس عن خالد رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “خالد سيف من سيوف الله، نعم فتى العشيرة”.

وعن سليمان بن يسار أن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه: خذ من خيلنا صدقة ، فأبى، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأبى، فكلموه أيضًا فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إن أحبوا فخذها منهم، وارددها عليهم، وارزق رقيقهم”. قال مالك: أي ارددها على فقرائهم.

وقال يوم السقيفة: ” يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغيَّر” ومن أهم كلماته في إثارة حماسة جنده للحرب وتحريضهم على الجهاد مقولته تلك: “عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، عباد الله اصبروا ، فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار .

ولا تتركوا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدءوهم بقتال، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق (أي الدروع)، والزموا الصمت إلا من ذكر الله عز وجل في أنفسكم حتى يتم أمركم إن شاء الله”.

وقد خرج المجاهد الصابر المحتسب أبو عبيده ، إلى الشام مجاهداً وكان قدر الله أن يصاب الناس بمرض الطاعون وروى الذهبي: أنَّ وَجَعَ عمواس كان معافىً منه أبو عبيدة وأهله، فقال: ” اللهم نصيبَك في آل أبي عبيدة ” ، فخرجتْ بأبي عبيدة في خنصره بثرة، فجعل ينظر إليها، فقيل له: ” إنها ليست بشيء “، فقال: ” أرجو أن يبارك الله فيها، فإنه إذا بارك في القليل كان كثيراً ” واقسم أبو عبيده: (إني ما أحب أن لي بها حمر النعم).

ووأراد عمر بن الخطاب إنقاذه من الموت بفعل أسباب ذلك فأراد له حيلة فكتب إليه إذا أتاك كتابي ليلاً فإني أعزم عليك ألا تصبح حتى تركب إلي، و إن أتاك نهاراً فإني أعزم عليك ألا يمسي حتى تركب إلي، فلما أخذ أبو عبيدة الكتاب قال: قد علمت حاجة أمير المؤمنين إلي فهو يريد أي يستبقي ما ليس بباق .

ثم كتب اليه يقول: يا أمير المؤمنين أني قد عرفت حاجتك إلي وإني في جند من المسلمين ولا أجد بنفسي رغبة عن الذي يصيبهم ولا أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمراً ، فإذا أتاك كتابي هذا فحلني من عزمك وائذن لي بالبقاء، فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضت عيناه فقال له من عنده لشدة ما رأوه من بكائه: أمات أبو عبيدة يا أمير المؤمنين قال: لا ولكن الموت منه قريب.

ولقد أمضى أبو عبيدة حياته مجاهدًا في سبيل الله، ومات في أرض الفتوح، فقد حضر أبو عبيدة عزوة بدر الكبرى، وأبلى مع غيره من المهاجرين والأنصار بلاءً حسنًا، وأكثر ما ظهرت قوة العقيدة في لقاء المهاجرين بأهل مكة المشركين، فعامة المهاجرين من قريش، وجلُّ جيش مكة من قريش .

وبين هؤلاء وهؤلاء قرابة ونسب ورحم، وربما كان الأب في جيش والابن في جيش آخر، وكان الأخ كافرًا وشقيقه مسلمًا، والخال مع المشركين وابن الأخت مع المسلمين، والتقى الفريقان في المعركة، وقُتل من قُتل من المشركين القرشيين بأيدي المسلمين القرشيين.

وتُوفي أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه في طاعون عَمْواس سنة ثماني عشرة، عن ثمانٍ وخمسين سنة، وصلى عليه معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وقام معاذ في الناس، فحثهم على التوبة، ثم قال: إنكم أيها الناس قد فُجعتم برجلٍ، والله ما أزعم أني رأيت من عباد الله عبدا قط أقل غمزا، ولا أبر صدرا، ولا أبعدَ غائلةً، ولا أشد حبا للعاقبة، ولا أنصحَ للعامة منه ، فترحموا عليه رحمه الله، ثم اصحروا للصلاة عليه، فو الله لا يلي عليكم مثله أبدا.

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *