Share Button

بقلم : د. عصمت نصّار

لقد تحدَّثنا في معظم كتاباتنا عن الفكر العربي الحديث، وبيّنا أن الفترة الممتدة من العقد الثالث من القرن العشرين إلى قيام ثورة يوليو 1952م تمثّل العقود الذهبية للمناظرات الفكرية في مصر والشام والعراق. فقد حفلت هذه الفترة بأكثر من خمسمائة مناظرة حول شتى ميادين الثقافة والفكر. والذي يعنينا في هذا السياق هي تلك الفترة التي كانت تتعلق بقضايا الفكر الديني وضروب النقد التي جمعت بين الكُتاب المحافظين، والمستنيرين المعتدلين، والتحديثيين التغريبيين؛ وإنْ شئت قل بين المحافظين المستنيرين – الذين حملوا على عاتقهم رسالة التجديد – والمجترئين العلمانيين الذين تأثروا بالثقافة الغربية.

وقد انضوى جُل الأزهريين تحت عباءة الاتجاه المحافظ الرجعي تجاه معظم القضايا المطروحة، ويستثنى منهم تلاميذ الشيخ “محمد عبدة”، ومن سار على ضربهم من أمثال مفكرنا “محمد فريد وجدي”، الذي تميز عن رفقائه من المحافظين الأزهريين بثلاثة أمور وهي : منهجية النقد في التناظر، وموسوعية الثقافة، والنزعة الفلسفية في التحليل واستنباط البراهين والأدلة.

وقد أثبتنا في المقالات السابقة اعتداله وموضوعيته في الرد على خصومه، وبيّنا قدرته الفائقة على دحض الأباطيل وتبرير علة الجانحين وأغراض المشككين والمجترئين، وعقلانيّته في إجلاء الحقائق وتوضيح الغامض وحرصه على التواصل مع المتلقي والتصاول مع المناظر دون قدح أو استنكار أو مصادرة على رأيه. أجل ! لقد بيّنا ذلك وسوف نؤكده في السطور التالية حيث آخر مناظرات “وجدي” مع “خالد محمد خالد” (1920م -1996م) الذي قاده قلمه إلى الوقوف في قفص الاتهام، وهو العالم الأزهري والداعية المجدد، والمفكر الإسلامي الحصيف، والخطيب، الملهم، والمتصوف الورع، والفيلسوف الناقد.

وحريُّ بي أن ألقي بعض الضوء على ذلك الداعية الثائر الذي لم يرث عن والده سوى الغيرة على صوالح الناس وحقوق الفقراء ومقاومة طمع الأغنياء واستنكار الظلم الاجتماعي الواقع على الفلاحين؛ ذلك الشاب الورع الذي نشأ نشأه دينية في كُتّاب العدوة (إحدى قُرى محافظة الشرقية)؛ فحفظ القرآن ثم رافق أخاه إلى القاهرة ليلتحق بالمعهد الأزهري الابتدائي عام 1929م، وقد لُقب هناك بصاحب الصوت القادم من الجنة في تجويد وترتيل القرآن، وفي الثانية عشر من عمره تردد على الجمعية الشرعية؛ ليتوسع في الدراسات الإسلامية التي لم يدرسها في الأزهر، والاستماع إلى دروس الأمام محمود خطاب السبكي (1858م – 1933م) وحديثه عن الأصول الشرعية والشمائل المحمديّة.

وانتقل الصبي إلى المرحلة الثانوية، وأجتهد في العزوف عن النهوج التلقينية المتبعة في دراسته الأزهرية؛ فانطلق يحرر ذهنه من النصوص والمتون المحفوظة، فلم يقنع الصبي المتطلع للعلم عند هذا الحد، بل راح يطالع أشهر الجرائد والمجلات والكتب السياسية والفلسفية قدر طاقته، ورغب في ثقل ذهنه لتدريب ملكات الفهم دون ملكات الذاكرة التي اعتادها خلال دراسته الابتدائية. وأدرك خلال مطالعاته لتاريخ الحركة السياسية في مصر قسوة الاحتلال الأجنبي وحق الشعب في الحرية والاستقلال وعلة الثورات على فساد الحكام وغيبة العدالة. وفطن إلى مبادئ ثورة 1919م، وإلى المعنى الحقيقي للولاء والانتماء المتمثل في الولاء للوطن والانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه.

وكانت خطب سعد زغلول (1859-1927م) والقمص سرجيوس (1882-1964م) التي كانا يلقيانها من فوق منبر الأزهر من أهم الدروس التي تجسدّت فيها تلك المعاني. وقد فطن يومذاك إلى أهمية كتابات التنويريين والمجددين والمصلحين التي انتجت هؤلاء الرجال السُّوار وعلى رأسهم الأفغاني ومحمد عبده, تلك الكتابات التي رسَّخت تلك المفاهيم في العقل الجمعي للشبيبة المصرية.

فمن أجل حريات الشعب ودفاعا عن الدين والوطن عاش أولئك الأحرار الكبار ولم يخشوا في الله لومة لائم. فقد عاش الإمام محمد عبده ومات خصماً للخديوي عباس، لا من أجل دنيا منعها عنه، أو مناصب حرمها منه، إذْ كان تَفرُّد الشيخ  ونبوغه وكفاءته وعلمه وكرامته وشخصيته المهيبة الجليلة يرشحه إلى أعلى  المناصب إلى درجة أنه كان يدير الأزهر دون أن يكون شيخاً له وينفذ ما يستطيع من إصلاحات. وطالما حارب من أجلها عن طريق عضويته بالمجلس الأعلى للأزهر وقدرته على الإقناع وصدق التوجه. وقد تأثر خالد محمد خالد بهذه الشخصية خصالاً وصفاتا ومنهجاً، وظل طيل حياته يدين بالحب والاقتفاء وتبعية المجتهدين لرأس المدرسة وأصول النهج، ولاسيما في ميدان السياسة فقد تأثر بمنهج الأستاذ الإمام في الجمع بين الدين والسياسة والوطنية فهي عنده ضميرٌ واحدٌ لا يتجزأ ولا يتناقض، وبالتالي لم يكن تاجراً ولا مغامراً بهذه المقدَّسات بل كان لها نعم الرائد ونعم الضمير.

ومن أقواله في ذلك : ” نحن مشمولون ببركات الإمام حين نهتف قائلين مرحباً بالسياسة؛ ولنكن متفقين على أننا طوال حديثنا عن السياسة؛ فإننا نعني السياسة المتفوقة في وطنيتها وفي وسائلها وغاياتها وأخلاقياتها، وحين نقف مع السياسة المنحرفة والعرجاء فإننا نعارضها ونناقشها وصولاً بها إلى  السياسة الرشيدة التي يجب أن نتأسى بها ونحيا في مناخها. ولعلّ إعجابه بمحمد عبده هو الذي قربه من شخصية الشيخ مصطفى المراغي (1881-1945م) شيخ الأزهر آنذاك ونهجه في الإصلاح.

أمّا السياسة العملية؛ فقد أخذها عن مكرم عبيد (1889-1961م) الذي كان يطرب لمرافعاته القانونية، ومحمود فهمي النقراشي (1888-1948م) الذي أخذ عنه الروح الثورية والإخلاص للقيم والمبادئ ومحاربته للتعصب العقدي والحزبي. ذلك فضلاً عن أسلوبه الرائع إلى الشباب, ذلك الذي جمع فيه بين التربية والتوجيه والوطنية وقيمة الحرية السياسية وقيمة الديمقراطية والانتصار دوماً للحق بعيداً عن مداهمة أصحاب السلطة, وتحذيره من خلط الدين بالسياسة أو خداع الشعب باسم الدين. وحرصه على شرف الفروسية ونبلها في الخصومة والخلاف.

ولم تقف قراءات خالد محمد خالد عند الطريف والنفيس والحديث من كتب العقيدة والسياسة في الثلاثينيات من القرن الماضي خلال دراسته في المرحلة الثانوية، بل استهوته أيضاً الكتابات النفسية ولا سيما تلك التي تتحدث عن الغرائز والشهوات وكيفية تهذيبها والميول ونزاعات وطرائق توجيهها واستثمارها.

وانتهى، وهو في ريعان الشباب، إلى أن أخطر المؤثرات النفسية على الشباب هي المؤثرات الجنسية، ومن ثم يجب على التربويين العناية بتبصير المراهقين بكيفية ضبطها والتحكم فيها. ويقول متسائلًاً : أيكون إفلاس التربية بكل وسائلها في جمع الشباب فوق أرض مشتركة مع مطالب مرحلة شبابه وإذكاء روح الحرية الملتزمة وانعاش وجدانه بكل البدائل الصالحة والمناسبة؟ .. أليس محتملاً أنهم اثروا ذلك حذراً من أن يتعجلوا ايقاظ مشاعر الجنس في الطفل و الفتي؟

ولكنه كان يعتقد – ببعد نظره – أن التوسع في دراسة أسرار النفس في مرحلة الشباب لا يقل أهمية عن دراسة المعارف الدينية  والسياسية حتي لا تقع شبيبتنا في مهالك الانحراف والتطرف في هذا أو ذاك، وتمنى أن يدرج علم النفس ضمن العلوم التي يجب على الداعية ورجل الدين والمشتغلين بالسياسة الالمام بها. ويقول :” لسوف يأتلفان ويمتزجان في وعيي وخاطري الدين والعلم حتى يهدياني معاً إلى الصواب وإلى الاعتصام بهذا الصواب من كل هرطقة وسفسطة، ومن كل حيرة وبلبلة حتى يسلماني إلى اقتناع لا أبيعه بملء الأرض رغباً ولا بملئها رهباً”.

وقد ساء مفكرنا ذيوع العنف في الحياة الحزبية المصرية، وكره أن يكون الصراع وتصفية الخصوم هو طريق فض المنازعات والخلافات في الرؤى والاتجاهات. وكان ينظر إلى الشيخ عبد اللطيف دراز (1890م – 1977م) على أنه النموذج الأمثل للعالم الأزهري الذي يمارس السياسة : بحصافة رجل الفكر وورع رجل الدين الذي لا يثنيه عن طلب الحرية والعدل مطمع، ولا يجنح به مطمح عن بلوغ مقصد الشريعة. ويرتحل شيخنا من ميدان السياسة الشاغل بالمصاولات الحزبية والمظاهرات الحماسية إلى بحور العشق الربانية الزاخرة بالابتهالات والطرق الصوفية والثورات الروحية والفتوحات النورانية.

ولم يرضْ من هذا العلم إلا بما لم يحدْ عن ما جاء به القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالتصوف عنده تخلية وتحلية وورع لإدراك الجمال وطمع لوصول إلى سلم الكمال، وفناء في عالم الجلال، وبقاء في معيّة صاحب النعم الذي لا يرد عنده سؤال.

ومن أقواله في ذلك :”التصوف أعلى مراحل التدين”، هذه حقيقة لا مراء فيها استخرجتها من تجارب الافذاذ ومن تجربتي … وهو أعلى مراحل التدين والعبادة؛ لأن فيه، وعن طريقه، يرث المؤمن من النبوة بعض أنورها وأسرارها … والتصوف كذلك أعلى مراحل التدين؛ لأنه بصفائه يهب صاحبه البصيرة. والبصيرة كما عرفها القوم “ما خلصك من الحيرة إمّا بإيمان إمّا بعيان”. وهكذا نرى العارفين بالله غادين رائحين بين الإيمان والعيَان. ومن ثم تجيء الحيرة وضابية الرؤية أبعد ما يكونان عن عقولهم وأفئدتهم … “الأحوال نتيجة المقامات”، و”المقامات ثمرة الأعمال”؛ فكل من كان أصلح عملاً، كان أعلى مقاماً”.

وفي رحاب الجمعية الشرعية تعرّف على الأمام أمين محمود خطاب السبكي (1884م – 1968م)، وانتقل خطيبنا بذلك من المنتديات السياسية إلى الوعظ في الحلقات الصوفية.

(وللحديث بقيّة)

بقلم : د. عصمت نصّار

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *