Share Button

كتب الدكتور كمال الحجام 

متابعة سامية الشرايبي -تونس

تقوم العدالة التربوية اليوم على احترام مبدأ الإنصاف الذي يعني توفير نفس فرص النجاح للوافدين على المؤسسة التربوية، ولعلنا نجد صدى هذا التحول النوعي في الرسالة التربوية في القرن الحادي والعشرين في مضمون الهدف الرابع من اهداف التنمية المستدامة. وهو هدف يضبط التوجهات العامة لكافة النظم التربوية بشكل يجعلها تستهدف توفير التعليم الجيد والمنصف للجميع طول حياتهم. ويقود هذا التوجه النوعي الدولي إلى التذكير بمرور السياسات التربوية عامة من المراهنة على الكم إلى المراهنة على الكيف نتيجة تغير ظروف الفعل التربوي وتغير انتظارات الوافدين على المؤسسة التربوية تبعا للتطورات السريعة والنوعية التي تشهدها المجتمعات المعرفية المراهنة على صنع الذكاء البشري والقدرة على الابتكار وإيجاد الحلول. ويكون بلوغ ذلك في تقديرنا بمدى تطور الكفاءة المهنية الفاعل التربوي، وهو ما يستوجب في هذا التوجه المعرفي، العمل على إنتاج النجاح البيداغوجي عند التعامل مع الوضعيات التربوية المتعددة، المتجددة والمختلفة.

ويمثل الالتقاء المباشر بين الفاعل التربوي والوضعيات المتنوعة التي يشتغل في إطارها، السياق العام الذي تندرج ضمنه الدراسات الحديثة الساعية إلى فهم كيفية تطوير الأداء البيداغوجي. إن ما ينتج من أثر بيداغوجي، وما يحصل من قدرة على المواجهة البيداغوجية للوضعيات، وما يبقى عن التفاعل الدينامي بين الفعل البيداغوجي والسياقات المتعددة التي يجري فيه، يعتبر ” حاصلا بيداغوجيا ” ، وهو يعني درجة الكفاية البيداغوجية التي يمكن ان يبلغها الفاعل التربوي ونجاحه في إنتاج الحلول النوعية للوضعيات المعقدة والمركبة. فالحاصل البيداغوجي في تقديرنا لا يعدو أن يكون الناتج الصافي البيداغوجي الذي يمتلكه الفاعل التربوي والذي يقدر على توظيفه في سياقاته المهنية المتنوعة. وهو في شكله الإجمالي الناتج البيداغوجي الخام الذي يحصل لدى الفاعل التربوي أثر تفاعله مع الوضعيات المهنية، وهو بذلك يتطلب وجوبا المعالجة الفردية لتحويله من معارف عامة إلى معارف سياقية مكتسبة والوعي بذلك تمشيا ونتيجة.

إن الحاصل البيداغوجي الذي يستقي منه الفاعل التربويي إمكانياته الفعلية في إطار السياق المهني الذي يتحرك فيه، يمثل حينئذ الرصيد البيداغوجي الذي تكوّن لديه أثناء تجربته البيداغوجية، وهو الناتج البيداغوجي الذي بقي لديه بعد مواجهة الوضعيات المهنية المتعددة، كما نعتبره القاعدة البيداغوجية المكتسبة اساسا من التعامل المباشر مع السياقات المهنية التي عاشها الفاعل التربوي، وهو في الاخير الثقافة البيداغوجية التي تكوّن في جوهرها الهويّة المهنيةللفاعل التربوي كذات منفردة مدعوة اساسا الى مواجهة وضعيات فريدة، وهي الثقافة البيداغوجية في الآن ذاته التي تمثل القاسم البيداغوجي المشترك وتبنيه تفاعلا مع كل اعضاء المجموعة المرجعية المهنية التي ينتمي اليها، ومن هذا المنطلق تصبح المسؤولية الأخلاقية فالمهنية للفاعل تُقاس اساسا بمدى المجهود الشخصي الذي يبذله لاثراء هذا الحاصل البيداغوجي الفردي والجماعي.

واعتمادا على ما سبق، يجدر البحث في طبيعة هذا الحاصل البيداغوجي، هل هو واحد للفرد وللجماعة المرجعية المهنية، وفي هذه الحالة يمكن تحديده مسبقا والعمل على بلوغه ليمكن من التحرك البيداغوجي السليم، ام هو ذلك الرصيد الذي يبنى فرديا ليتخذ شكل المتعدد للفاعل الواحد واشكالا متعددة للفاعلين المختلفين، وإذا كان كذلك متعددا مختلفا من فاعل إلى آخر، كيف يمكن أن يكون مشتركا بين أفراد المجموعة المرجعية المهنية؟. ومن هذا المنطلق يمكننا القول أولا ان الحاصل البيداغوجي هو الناتج الصافي الذي يبقى لدى الفاعل إثر كل تجربة بيداغوجية تفاعل في إطارها بكفاياته البيداغوجية التي يستوجبها السياق، أي أن الحاصل هو القاعدة المعرفية والذهنية التي تتأسس عليها الكفايات التي تخول للفاعل التحرك الناجع داخل الوضعيات المهنية. فإذا كانت الكفاية هي القدرة على تعبئة الموارد الذهنية والمعرفية، أي القدرة على إيجاد الروابط المناسبة بين الموارد المختلفة وحسن توظيفها لا مطلقا، ولكن وفق خصوصيات السياقات المختلفة لتظهر نفس الكفاية بأشكال متعددة.، فإن الحاصل البيداغوجي الذي ينتج عن ذلك في تقديرنا، وإن بدا واحدا ليمثل قاعدة الكفايات، فهو لا يمكن ان يّفهم إلا في صيغة الجمع. وهو ما يفسّر اختلافه ودرجة تملكه من فاعل إلى آخر، وذلك اعتمادا على نوعية التجارب البيداغوجية التي يمر بها كل فاعل ومدى قدرته على تملك الرصيد البيداغوجي الذي يكون حاصلا مضيفا يدعم القدرة على تملك المعرفة البيداغوجية ومزيد تطوير نظام الاشتغال الفردي.

يبيّن تحليل المواجهات المختلفة للوضعيات المتجددة مضمونا وشكلا من قبل نفس الفاعل التربوي أن ممارسته لا تتأسس على مجرد معارف، بل تقوم خاصة على عمليات ذهنية يتم بفضلها البحث عن المعارف الضرورية للفعل والقدرة على توظيفها بشكل أمثل، كما تقوم أيضا بالضرورة على مهارة قراءة الوضعيات وفهمها واستخلاص العبر منها، هذا الاستخلاص الناتج عن هذه العمليات مجمّعة يدعم الحاصل البيداغوجي ويثريه ليمكن صاحبه من الدخول بقدرة أفضل للمواجهات الجديدة للوضعيات المتجددة. ان العلاقة الجدلية بين المعارف المعبّاة والعمليات الذهبية الموظفة بالسرعة التي تفرضها دينامية التفاعل مع السياقات الطارئة يؤكّد استخدامنا الطريف لمفهوم الحاصل البيداغوجي. فكما يحتاج الفاعل التربوي إلى معارف مختلفة يشتغل بها، فهو مظعو للسبب ذاته إلى تأسيس، ” شامات فعل” واعية تحوّل مسارات هذه التفاعلات من اللاوعي العملي إلى مجال الوعي، وهو الشرط الدال على بناء الحاصل البيداغوجي.

ولمزيد فهم الحاصل البيداغوجي في صلته بالممارسة واثره في تطويرها، يجدر بنا التوقّف عند مفهوم ” المعرفة البيداغوجية” الذي يبدو منذ أول وهلة غامضا يستوجب التوضيح. يُستعمل مفهوم “المعرفة البيداغوجية” على المستوى الابستيمولوجي في حالات عديدة، فقد يُراد به “المعرفة البيداغوجية النظرية” كما يُراد به ” المعرفة البيداغوجية المكتسبة من قبل الفاعل”. فإذا كانت ” المعرفة البيداغوجية النظرية” غير مرتبطة بسياق ويمكن نقلها وتداولها وحفظها، فأن ” المعرفة البيداغوجية المكتسبة” لا تكون إلا سياقية تمّ بناؤها من قبل الفاعل ذاته انطلاقا من وضعيات حقيقية يتفاعل معها. واعتبارا لأهمية المسألة الدلالية لمفهوم ” المعرفة البيداغوجية”، يجدر بنا التمييز بين الحقلين الدلاليين بهدف فهم “الحاصل البيداغوجي”.
أن “المعارف البيداغوجية النظرية والموضوعية” تنتمي إلى الحقل الدلالي للثقافة العلمية، وهي معارف توجد بمعزل عن الأشخاص الذين يمكن لهم ان يمتلكوها، هي معارف قابلة للاستهلاك من قبل الفاعلين، وهي تتميز نظرا لوضعها الابستيمولوجي بقابليتها للاكتساب لتكون قاعدة ممكنة للحاصل البيداغوجي، هي رصيد الفاعل المنتج لكفاياته المهنية المختلفة. اما ” المعارف البيداغوجية المكتسبة”، فهي تنتمي إلى الحقل الدلالي للمهارات والمواقف والقدرات والكفايات، وتتميز بوضع ابستيمولوجي خاص، فهي ملتصقة بالفاعلين المختلفين وتمثل ما يكتسبونه فعلا بما انها تتجلى من خلال ما يظهرونه من كفايات عند مواجهة الوضعيات المهنية، وهي بذلك تحصل نتيجة تمش بنائي فردي وفريد مما يجعلها تختلف من مواجهة فريدة لفاعل فريد إلى مواجهة أخرى لفاعل أخر، ومن مواجهة صريحة لنفس الفاعل عندما يتفاعل مع سياقات مختلفة. ان ما ينتج بشكل واع عن هذه المواجهات يمكن أن يؤسس بشكل واضح لما أطلقنا عليه “الحاصل البيداغوجي” للفاعل التربوي.

يحتاج فهم الحاصل البيداغوجي من جهة أخرى إلى توضيح البعد الثاني المكون له إضافة للبعد الأول المتمثل في المعرفة البيداغوجية، هذا البعد الثاني الهام للحاصل البيداغوجي يتمثل في ما يُطلق عليه ب”التمشيات الذهنية” المنجزة على المعارف أثناء الفعل، ذلك ان البحوث التربوية المجراة في حقل العلمانية حول ” تفكير المدرسين” تؤكد أن التمشيات الذهنية تقوم على الاستدلالات الاستقصائية والاستنتاجية التي يطلبها فهم الوضعيات المركبة، والسؤال الأهم في هذا المجال هو معرفة مدى وعي الفاعل التربوي باستعماله لهذه ” الألقوريتمات ” وقواعد الفعل والخطط العقلية الموظفة لحل المواجهات النوعية مع الوضعيات المختلفة. ان المتأمّل في ما ينجزه الفاعل التربوي، يتأكد لديه عدم وعي هذا الأخير بمثل هذه التوظيفات المنهجية، بل يقتنع كل ملاحظ عند ملاحظته المنهجية المباشرة لممارسة الفاعل التربوي وهو يشتغل في سياقه الحقيقي توظيفه لتمشيات ذهنية تكيّفيّة تستهدف مواصلة العمل في ما هو واضح لديه. فالخبرة البيداغوجية في هذا المستوى لا تندرج ضمن الفكر المنطقي بقدر ما تحصل ببناء حلول عملية لوضعيات فريدة، وبذلك نفهم أن التمشيات الذهنية للفاعل البيداغوجي تمبني على ذهنيات ضمنية قابلة للتعبئة الحينية. وهو في تقديرنا ما يبين أن التكيفات الفورية والمتدرجة مع السياق المهني تبنى من خلال هذه التفاعلات مع متغيرات الوضعيات، وتعتمد تباعا على استدلالات مرنة موجودة ومتحكم فيها وسريعة الظهور والتوظيف، وهي في تقديرنا ما يمثل البعد الثاني للحاصل البيداغوجي الذي يمكن في النهاية من بناء التكيفات المتواصلة والذي يتطور بدوره من التراكمات الواعية الحاصلة أثر المواجهات السياقية.

يسمح لنا هذا الطرح الطريف للحاصل البيداغوجي وصلاته بالسياقات المهنية من جهة، وبكفايات الفاعل في مواجهتها من جهة أخرى، بالقطع في تقديرنا مع التصوّر الكلاسيكي القائم على الوهم العلماني في تكوين الفاعلين التربويين، ويّبعدنا للغرض ذاته من براديقم المعرفة النظرية المطبقة إلى براديقم الممارسة المهنية ودورها في بناء الحاصل البيداغوجي. هذا ما يسمح من جهة ثانية بتجاوز المقاربات التكوينية التي تعتمد على المعارف النظرية التي تقدم للفاعل التربوي وليطلب منه في مهمة مستحيلة البحث عن توظيفها، إننا بهءا الطرح في سياق الاببستيمولوجيا الحديثة للممارسة البيداغوجية والتي بمقتضاها يكون التكوين التمهيني للفاعلين التربويين مؤسسا على الفعل والتأمل فيه لفهمه وتعديله. فلا وجود لامكانية مواجهات بيداغوجية ناجحة ونقل أثرها إلى وضعيات جديدة إلا بمدى تملك الفاعل التربوي لتمشيات تفكير خصوصية تؤسس لحاصله البيداغوجي.

إنه لا قيمة لهذا الطرح النوعي للحاصل البيداغوجي الا ببناء استراتيجيات تكوين تمهيني للفاعلين التربويين تمكّن من إدراج مسألة التكوين التمهيني في رؤية جديدة قوامها البحث المنهجي عن تطوير كفايات مهنية مقصودة من خلال مواجهة الوضعيات وفهم مدى القدرة على التوظيف المحكم للمعارف وللتمشيات الذهنية الموظفة، هذا التصور الحديث ينطلق من دراسات ابستيملوجية حديثة للممارسة البيداغوجية وإيجاد الحلول الممكنة لتطويرها، كما يعمل من أجل الوعي الضروري بمدى نقل أثر التكوين في مستوى الممارسة لفهم قضايا التعبئة والتوظيف للموارد المعرفية والذهنية والعمل على تطويرها من خلال دعم واضح المقصود للحاصل البيداغوجي…

د/ كمال الحجام
السبت 4 جوان2020

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *