Share Button

الاستبصار

بقلم : د. مجدي إبراهيم 

زمان؛ كان الواحد يكتب بقلم الحبر الأسود ولا بشطب ولا يخطأ لا في حرف ولا في تركيب. أنا شخصياً كنت أسمي الأقلام بأسماء الفلاسفة والكتاب الكبار؛ فهذا القلم الأبجر هو لأفلوطين، وهذا لأوغسطين، وذاك لكانط ، وهذا العقاد، وهذا لطه حسين، وهذا لزكي نجيب محمود. وهكذا، أنا من كنت أسنّ سن قلم الحبر، وأشترى له (مداداً) حبراً مخصوصاً له رائحة تظهر بجمالها مع دوام الممارسة، ولا زلت أحتفظ بأقلامي القديمة إلى اليوم.
والحق أن بيني وبينها علاقة روحيّة نادرة، فما هي إلا نظرة إلى القلم إلا وأسمع صريره في قلبي، واستشعر نداءه، وكتبت عنه مرات عديدة، بهذا العنوان (نداء القلم).

ما من فكرة كانت تخطر لي في النوم أو في اليقظة إلا وكتبتها. كتبت أكداساً لا حصر لها من الأوراق، كلها بحب وتبتّل وتجرّد. واليوم .. ماذا يحدث؟

شتات غريب بين الكيبورد والأقلام السائلة الحديثة، اذا كتبت ثلاث أو أربع صفحات، فرغ القلم فتضطر إلى رمية في المزبلة، وكأنك ترمي قطعة من روحك وكيف تحتفظ ببقايا أقلام محنطة لا روح فيها ولا حياة، ولم تكن لتستطيع أن تفعل ذلك مع القلم الحبر؛ فلمجرد أن تتركه فارغاً أو مهملاً لمدة يوم يجف ويذبل لكأنه يحتضر، فلا يصلح لاستخدام، يناديك لإنقاذه من الموت. وماذا تفعل؟ تجري لتغمسه في محبرته، وتستخدمه على الفور لتكتب، إذ ذاك تدب فيه الحياة .. أتراك أنت الذي أحييته أم هو الذي أحياك من ثباتك ونعاسك؟

بصدق حين أقول لك؛ كنت أتعلم من قلمي الحبر. كانت الأقلام من شدة ألفتنا لها وألفتها لنا تعلمنا، صدق الحق إذ قال : “والذي علم بالقلم”، وفيه دلالة رمزية لا يتسع المقام لها.

على أن هذا الكيبورد اللعين لا يُخرّج إلا عقولاً ممسوخة تكتب بلا روح وبلا مدد من عَرَق المعاناة، وهو أكثر ضياعاً للوقت عكس ما يتصور الناس ممّن لا خبرة لهم : تفكك الفكرة، وتشتت الذهن، وقلة الدُرْبة على حمل القلم مأساة التعلم الحقيقة وما من تعلم ولا تعليم بغير مجرى القلم على الأوراق.

وما يقال عن القلم عندي يقال عن تغذيه العقل بجودة المقروء. يعمل العقل كما تعمل الفرن، والخبز الموجود فيها هو الإنتاج، والنار التي تطيّب الخبز هى القراءة الدائمة، هى الوقود. إذا توقفت القراءة توقف الإنتاج، وكلما أعطيت العقل زاده من القراءة والتأمل، أعطاك زادك من الإنتاج، ما رأيتٌ آلة تعمل بغير ملل كما الفرن قدر ما يعمل العقل بوقود القراءة والتأمل.

العقل كالفرن البلدي قبل ظهور الصناعات الحديثة، لا يمكن أن يشتغل إلا بأكوام الوقود الدائم، ووقود العقل القراءة والتأمل والاستبصار. كلما شحنته بالقراءة وتأملت المقروء واستبصرته جيداً، وَمَضَتْ الأفكار في رحم العقل كما يومض الخبز تحت لهيب النار المشتعلة من وقود الفرن، ولا يمكن لكاتب أن يكتب كتابة جيدة بغير قراءة وتأمل واستبصار .

أمّا القراءة فعرفناها، وأما التأمل فموقوف عليه معلوم، فماذا عساه يكون هذا الاستبصار؟

الاستبصار هو أعلى المراحل في العملية الإبداعية كالرغيف الساخن تسحبه من الفرن بعد استوائه. هو الكتابة الإبداعية المتفردة بعد القراءة التي كانت مرحلة أولى، وبعد التأمل الذي يأتي كمرحلة ثانية فالذي يشعل الوقود ليجعل منه ناراً ملتهبة هو التأمل، لكن لا القراءة وحدها ولا التأمل وحده يكفيان لتمام العملية الإبداعية كما لا يكفي الوقود بلا اشتعال، ولا يكفي الوقود مع الاشتعال أيضاً وليس في الفرن دقيق معجون ليصير خبراً شهياً.

إلى هنا؛ ولم نصل بعد إلى حالة الاستبصار هذه. العجيب في الأمر أن حالة الاستبصار خارجة عن العقل تماماً كما يكون رغيف الخبز خارج عن الفرن مع أن هذه الحالة الاستبصارية نتيجة لمراحل سابقة، ولكنها في ذاتها مفارقة لها بمقدار ما يفارق رغيف الخبز ما خرج عنه من وراء مراحل سبقت وجوده وأنشأت تكوينه وشاركت صورته النهائية.

الاستبصار بالنسبة للعقل كرغيف الخبز بالنسبة للفرن : شكل نهائي تجسّده الكتابة الإبداعية في مراحلها الأخيرة تماماً كما تجسّد عملية الإعداد من وقود واشتعال ومادة (هي الدقيق المعجون)، رغيف الخبز هذا الذي بين يديك.

فما يخرج من العقل هو الكتابة، كما يخرج عن الفرن الرغيف، لكن ليست كل الأرغفة التي تخرج عن الفرن صالحة للاستخدام الآدمي؛ فها هو رغيف محروق، وهذا آخر زابل تألف هزيل ردئ، وذاك ضخم عجينه مخلوط بعشب الأرض ولوثة الهفاف المتطاير في الهواء، وعلة هذا كله هو فارق الصناعة بين جيدة ورديئة. والاستبصار في الكتابة هو الذي يقوم مقام الصناعة في الفرن، فإذا وجد الاستبصار وجدت الكتابة الإبداعية، وإذا لم يوجد فقدت الكتابة الجيدة وأصبحت كرغيف فاسد محروق لا يصلح للغذاء.

أما عن كنه الاستبصار؛ فالخيالُ عالمه العظيم وفلكه الذي يسبح فيه فيخلق ما لم يكن مخلوقاً، مع تعدد الصور والمرائي الوجودية عليه.

د. مجدي إبراهيم  

 

 

 

Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *