Share Button

شِرْعة التجديد وخِصال المُجددين في خطاب ابن عاشور

بقلم : د. عصمت نصار

لا نكّاد نَلمح بين قادة الفكر وأصحاب الأقلام في منتصف القرن التاسع عشر، سوى أرباب خطابات بعضها أُفتتّن بمدنيّة الغرب وراح يبتضع منها كل ما أبهره وآثار فضوله المعرفي، وقد أنعكس ذلك في كتاباتهم التي كانت تُعبر عن مرارة شعورهم بالإغتراب في المجتمع الشرقي الذي يَدين بالولاء والإمتنان لمشخصاته وقيّمه التليدّة. وعلى الجانب الآخر رأينا المتعصبين للقديم الذين صَرفوا جهودهم للتعليقات والشروح والحواشي على متون خَطّها أهل الرأي من الأقدمين لحل مشكلاتهم وإصلاح أحوالهم، وقد شَعَرّ كذلك أولئك الروّاد بالإغتراب أيضاً، في مجتمع أعيّاه الجهل والتخلف والإنحطاط الأخلاقي والتفكّك الإجتماعي، ولم يفلح أولئك المنتمين للموروث من معالجة إخفاقات الواقع؛ بل كان همّهم الأول هو العوّدة للتراث وسُنة الأقدمين، بحُجة أنّ فيه جميع الأدواء وضروب الخلاّص والنجاة. وقد وقع كلا الفريقين في معترك التقليد، فالفريق الأول راح يلهث وراء أذيال الغرب، وراح الفريق الثاني يتمسح في أعتاب السَلّف.

أمّا الفريق الثالث الذي يُمثله أرباب المشروع الحضاري الذي شَرّع في تشكيل بِنيّته “حسن العطار” ورفاقه كما ذكرنا ثم تلاميذه ومدرسته، فقد حرص روّاده على الجمع بين الأصالة والمعاصرة والنفيس والمستطرف وصحيح الدين والحديث النافع من العلم، وجعلوا من مبحث التجديد المدخل الرابط بين المباحث الأربعة الأخرى (التراث، الحرية، الوعيّ، الإصلاح)؛ فأدركوا أهمية تجديد لغة الخطاب التوجيهي وذلك عن طريق صحافة الرأي والمجالس العلمية والمنتديات الثقافية والصالونات الأدبية، ثم أنطلقوا إلى ميدان التعليم فنظموا مدارسه وطوّروا منهاجه وحدّثوا معاهده، فأنشئوا الكليات والجامعات وجعلوا من الأزهر جامعة تشتمل على كليات متخصصة لدراسة العلوم العقليّة والفقهيّة والشرعيّة، وإرسال البعثات للإستفادة من علوم الأغيار، وأدرجوا المعارف الفلسفية ضمن البرامج الدراسية في مراحل التعليم المختلفة، وجعلوا النقد العلمي مدخل للتساجل وتقييّم الأعمال الأدبية والآراء الإصلاحية والنُظم السياسية حتى بات مُصطلح التجديد هو حجر الزاوية بين القديم والحديث الذي لا غُنى عنه لتشييّد أي نسق حضاري.

وقد نجح “محمد عبده” في نشر برنامجه الإصلاحي، وإعداد تلاميذه في مصر والشام وبلاد المغرب العربي؛ لتفعيل آلياته وتطبيق تصوارته، بداية من إصلاح حال اللغة العربية إلى تجديد علم الكلام وإحياء النظرة الموسوعيّة في التأويل العقلي للقرآن الكريم، وشجع على إعادة فحص كُتب جُماع الحديث وكُتاب السيرة النبويّة وغربلة مصنفات كُتاب السُنة، وحثّ تلاميذه أيضاً على البحث في علم المقاصد الشرعيّة، وذلك لتقويم العقلية البحثيّة في العلوم الإسلامية من جهة والرد على غُلاة المُستشرقين بلغة منطقية تحتكم إلى الحُجة والبرهان في الدفوع وتصحيح الآراء.

وقد استفاد شبيبة هذه المدرسة من تلك الدروس، فنجد “أمين الخولي (١٨٩٥م – ١٩٦٦م)، و”عبد المتعال الصعيدي (١٨٩٤م – ١٩٦٦م ) وغيرهما، يحثون على معايير مُستحدثة للمُجدد الإسلامي المُعاصر الذي يستطيع التصدي للقضايا وحل مشكلات الواقع، ولعلّ أهم الإضافات التي قدّمها “عبد المتعال الصعيدي” في كتابيه (في ميدان الإجتهاد ١٩٤٩م)، (المجددون في الإسلام ١٩٥١م) وأكد فيهما على ثلاثة أمور : أولها أن الإجتهاد فرض عيّن على أهل الرأي من العلماء، وأن الإجتهاد مُباح من حيث مشروعيّة البوّح، والحق في النقد، والإحتكام للتجريب والتطبيق للحُكم على سلامة الرأي، وثانيها : أن مُصطلح الأصوليّة لا يتعارض مع مُصطلح التجديد، لأن الأصيل في اللغة هو التليد والمُبتكر أيضاً، وثالثاً أن بنيّة التجديد ليست حِكراً على أمة بعيّنها ومن ثم الإضطلاع بالتجديد يجوز ظهوره في أمة الإستجابة أو أمة الدعوة، وليس هناك أدنى حرج على المسلمين من الأخذ بآراء العلماء والفلاسفة من غيّر أمة الإسلام، والإستفادة بآرائهم ما دام النفع فيها ولا تتعارض مع ثوابت عقائدهم، فالعقل والعلم والتجديد مُشاع بين الأمم شأن التقدم والتحضّر والإصلاح، والعِبرة فيها جميعاً بالمقاصد والمآلات.

كما قام “الصعيدي” بمراجعة المصنفات التي تناولت التجديد والمُجددين في العصر الحديث، من أمثال كتاب (بغيّة المقتدين ومنحة المُجددين على تحفة المُهتدين) للشيخ “محمد المراغي المالكي الجرجاوي (١٨٦٥م – ١٩٤٢م) الذي ظهر نحو عام ١٩٢٦م، وكتاب (تاريخ الأستاذ الإمام ١٩٣١م) للشيخ “محمد رشيد رضا” الذي خص مقدمته بالحديث عن المُجددين في الإسلام ومقالات “أمين الخولي” على صفحات (مجلة الرسالة ١٩٣٣م) التي كانت تدعو إلى التجديد والمُجددين.

ويقول “الصعيدي” في ذلك : (التجديد في الفكر هو إثبات جَدّة وطرافة الأصول والثوابت بعد إحيائها وتخليصها ممّا أعاق فاعليتها وأثرها … والحمد لله الذي له كل يوم شأن، وسَن بهذا سُنة التجديد في خلقه، ووضع أصل الترقي في هذا العالم ليسير في طريق التجديد خطوة بعد خطوة، ومن أكمل إلى أكمل منه، دلالة على عظيم قدراته، وإنها – أي تلك السُنة – لا تقف في الكمال عن حد محدود ولا تنتهي فيه عند نهاية من النهايات، والصلاة والسلام على محمد خاتم المُجددين من الأنبياء والرُسل وقدوة المُجددين بعده من أتباعه وأتباعهم، إذ بُعث لتجديد الشرائع بعد ما أصابها من البلى، ولفتح باب الترقي فيها بترقي البشريّة، فوضع أصول التجديد في شريعته وفتح طريقه لكل من يحاول بعده، وجعل من أتباعه مُجددين يُبعثُون في كل جيل يجتهدون على نحو ما أتى به من التجديد في الشرائع ويسيرون على وفق ما وضعه في ذلك من الأصول … وقد ذكرت فيما سبق أساس التجديد؛ فمن تحققّ فيه فهو مُجدد سواء كان سُنيّاً أم كان شيعيّاً أم غيرهما من الفرق الإسلامية … إنّ المراد من الأمة فيه – في الحديث الشريف عن التجديد والمُجددين – وهم المسلمون ويجوز أن يُراد أمة الدعوة، وإرادة هذا ظاهرة على الأساس الذي قدّمته في فهم التجديد في الإسلام).

ولعلّ أطرف ما جاء في حديث “عبد المتعال الصعيدي” السابق عن التجديد والمُجددين هي تلك المقارنة التي عقدّها بين المصنفات التي ذكرت ابن تيميّة (١٢٦٣م – ١٣٢٨م ) باعتباره من المُجددين في الشرق الإسلامي، وأهملت “روجر بيكون ١٢٢٠م – ١٢٩٢م) في الغرب في نفس الحِقبّة التاريخية التي عبرّت عن تَخلُف المسلمين وتَقدّم الغربيين، ثم أنتقل إلى المُعوّقات التي تُعطل التجديد وعلى رأسها الحَجر على الحريات، والإستبداد السياسي، وغيبة المشروع الإصلاحي الشامل، وجمود العقل الجمعيّ وعجز قادة الرأي في إنهاضه، وخوفّ الحكام من خطر الثورات التجديدية والحركات الإصلاحية التي يُمكنها تهديد ثبات عروشهم، وتآمر الأغيار على الحضارة العربية الإسلامية، ذلك كله بالإضافة إلى تأكيده على ضرورة تحليّ المُجددين بالدِربّة والدرايّة، والحيدّة والموضوعيّة، والنزاهة والإخلاص في العمل، وغير ذلك من نهوج أصحاب المشروعات النهضوية التي أكد عليها الأستاذ الإمام ومدرسته.

ولا غروّ أنّ “ابن عاشور” قد تأثر تأثراً كبيراً بالكتابات السابقة عليه في هذا الموضوع المهم لنهوض الأمة الإسلامية وإحياء العلوم الشرعيّة والعقليّة التي أستند عليها للوصول إلى المقاصد الإلهيّة كما ذكرنا.

ويقول “ابن عاشور” عن أصالة التجديد في الفكر الإسلامي : (إنّ هذه الشريعة إرشادٌ صِرف، وإن للفضائل والصالحات تضاؤلاً وتخلُقاً بكرور الأزمان، وإن لدأب النفوس في المسير حنفاً وإنحرافاً إذا أمتد الميدان من أجل ذلك ضمن الله لهذا الدين حفظه فقال ” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ” (الحجر ٩)، وإن لحفظه ثلاث مقامات :- أولها : مقام الرجوع إلى أصل التشريع عند الإشكال، وهو مقام العمل بآية ” فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا” (النساء ٥٩)، ثانيها : مقام تجديد ما رثّ من أصول الدعوة، وهو مقام العمل بآية : ” وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ”  (آل عمران ١٠٤)، وثالثها : مقام الذّب عنه وحمايته، وهو مقام العمل بآية:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ” (محمد ٧).

ويؤكد شيخنا أنّ الدرب الأول والثاني يَختّص به أهل الرأي وأصحاب الدِربّة والدرايّة من العلماء المتخصصين في التفسير والفقه وعلم المقاصد، وأنّ تَقدّم المجتمعات الإسلامية مرهون بكثرة مثل هؤلاء الأفاضل من المجتهدين والمصلحين الراغبين عن التعصب أو التَحزُب مع جماعة أو لرأي أو مِلة، وعليه يُصبح المُجدد الحقيقي هو العَالِم فقط كما وَصف به الباري العلماء في القرآن بأنهم ورثة الأنبياء، وما وُرِد في الحديث الصحيح كما وُرِد في البُخاري وسُنن أبو دواد وأحمد ابن حنبل، وما تواتر في الخبر الحسن.

والمراد بتجديد الدين هو الوقوف على حقيقة المَقصِد الذي خفيّ أو غَمُضَ أو حاقّ به ما يُصِرف الناس عن أصله وجوهره، ومن ثم يعمل المُجدد على تبصير الناس بثوابت العقيدة والواجب من الشريعة ثم دفع الضرر عن المسلمين، وذلك بتقويم عوائدهم وأخلاقهم والزوّد عن دينهم ضد المُغتصبين والمُحرضين والمُفسدين من الداخل أو الخارج.

ويُضيف “ابن عاشور” أن خطاب التجديد هو المتماسك في بنيته ومُتسقاً في أركانه وغير مضطرب في سياقاته وشاغر تماماً من التناقض أو النقصان الذي يمنعه من الإستمرار والتفاعل مع الواقع، ويقول في ذلك : (إنّ التجديد الديني يلزم أن يعود عمله بإصلاح الناس في الدنيا، أما من جهة التفكير الديني الراجع إلى إدراك حقائق الدين كما هي، وإمّا من جهة العمل الديني الراجع إلى إصلاح الأعمال، وإما من جهة تأييد سلطانه).

ويُبرر “ابن عاشور”مُدَّة زمن ظهور المُجدد التي وردت في الحديث بأنها مناسبة ومنطقية إذا ما وضعنا في الاعتبار آفة النسيان والرثاثة والتَخَلُق والتأول والإنتحال والإجتراء والشك وظهور البِدع وزيوع المفاسد، وغير ذلك من الأضرار التي تُصيب ثقافات الأمم وثوابت معتقداتهم والأصيل من أخلاقياتهم وعوائدهم، ولا يُمانع “ابن عاشور” من ظهور أكثر من مُجدد خلال هذه الفترة، وذلك بإلهام من الباريّ تبعاً لحال الأمة وإحتياجاتها لمن يَرُدها إلى صحيح الدين.

ويأخذ “ابن عاشور” على مُصنفي كُتب التجديد والمجددين مثل (ابن السبكي ، وابن الأثير) وغيرهما من الأقدمين حَصّر صفة المُجدد في أهل بيت رسول الله، أو في أحد أئمة المذاهب الأربعة، ومن سار على نهجهم بحُجّة أن مِثل ذلك التصنيف لا يخلو من التخصيص والتفضيل والإنتصار لقوم أو إتجاه أو مذهب، وذلك مُفارق لعموم النص الذي لم يُحدد نَسب المُجدد ولا وجهته العلميّة، فليس في الإسلام كهانة ولا طبقات، ومن ثم لا يجوز اعتبار المُجدد من علماء الفقه أو الشريعة؛ بل يجوز في أي فرع من فروع المعرفة وكل ما فيه نفع للمجتمع بخاصة، ولسائر المسلمين بعامة، ولا يشترط في تجديده سوى الإلتزام والإنصياع لثوابت العقيدة ومقاصد الشريعة، علماً بأن “ابن عاشور” قد أدخل فيما أورده من أسماء المُجددين بعض المتكلمين والفقهاء والمُحدثين والمنتمين إلى الشيعة الإمامية، وغيرهم من العلماء الذين ينطبق عليهم الوصف السابق.

ويقول : (كذلك لا يلزم منه أنه أراد بالمبعوث الفقهاء خاصّة، كما ذهب إليه بعض العلماء، فإنّ انتفاع الأمة بالفقهاء وإن كان انتفاعاً عاماً في أمور الدين، فإنّ انتفاعهم بغيرهم أيضاً كثير مثل أولي الأمر وأصحاب الحديث والقُراء والوُعاظ وأصحاب الطبقات من الزُهاد، فإن كل قوم ينفعون بفن لا ينفع به الآخر، إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة وبث العدل والتناصف الذي تُحقن به الدماء ويَتَمكّن من إقامة قوانين الشرع، وهذه وظيفة أولي الأمر).

ويُمكن للقارئ ملاحظة مدى تماسك بنيّة نسق التجديد الذي بدأه “حسن العطار” من جهة، ويُلاحظ كذلك الأطوار التي مَرّ بها نسق التجديد على يد المدارس المتتالية حتى وصل لذروته عند “ابن عاشور” من جهة أخرى.

وللحديث بقيّة عن إبداعات “الطاهر ابن عاشور” في ميدان التجديد.

بقلم : د. عصمت نصّار 

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *