Share Button

الفلسفة والثقافة

بقلم د. مجدي إبراهيم

الثقافة كالتعليم؛ لا تمنح كما تمنح سائر الأشياء بالمجّان، بلا تعب ولا مجهود ولا حرمان. نعم! إذا كان التعليم يقتضي بذل المجهود في ترسيخ القيم العليا كما ينبغي أن تكون، والنهوض بما هو كائن، فالثقافة داعمة للتعليم في بناء شخصيّة الفرد وتشكيل توجهاته المعرفيّة بمقدار دعمها المؤكد في خلق مجتمع حضاري مُتقدّم، يحفظ هويته، ويُساهم في الإنجازات العالميّة، ولا يكتفي فقط بالاستهلاك ثم التسوّل المقيت على موائد اللئام.

التعليم ضرورةٌ لا بُدّ منها .. والثقافة كمالٌ لا بُدّ منه.

وإذا كان التعليم يُفرض فرضاً على المتعلم لكي يقوم بواجباته الاجتماعية والوطنية ترسيخاً لفكرة الأمن القومي، وهو أمر تقدّره، وينبغي أن تقدّره الدولة على الدوام، فالثقافة تكميلٌ لهذا الفرض الذي يُرقي من الإنسان ويهذّب من قدراته، إلاّ أنها من جهة أخرى تختلف عن التعليم باعتبارها نشاطاً تلقائياً يُمارسه كل إنسان يجد في نفسه القدرة على شحذ المُمارسة لهذا النشاط الفاعل.

خذ مثلاً : لئن كان الإرهابُ في وطننا العربي يشغل أكثر المساحات ويستغرق أنشطة الوطن الحيويّة، فلا أقلّ من مواجهته أولا،ً وقبل كل شيء، بالفكر؛ فإنّ تبعة تغيير التفكير مسؤولية مجتمعية يقع عاتقها على التعليم أولاً ثم الثقافة ثانياً؛ لأنهما مؤسستان مسئولتان في المجتمع عن فعل القناعات : تكوين القناعة وتوجهها، ثم تغييرها واستبدالها بقناعة أخرى تكون أكثر إيجابية من القناعة السابقة عليها.
وبإصلاح التعليم واستقامة الثقافة تتغير المفاهيم، وهى لا تتغير بين عشيّة وضحاها، ولكن بعد جهود مضنية من التربية والإصلاح، وإذا تغيرت المفاهيم انعكست على المجتمع بالسلام .. ومادام التعليم فاسداً، والثقافة متردّية، والعقائد منحرفة، والتدين شكلياً، والأخلاق منحلة؛ فلا تنتظر سوى هذه العوامل تتضافر لتُشكّل منظومة التّطرُّف والإرهاب.
فالعملية التعليمة بلا ثقافة تنويرية عاطلة، والثقافة التنويرية بلا أسس تعليمية باطلة.
ومع ذلك، فهناك اختلاف في الروح بين الثقافة والتعليم .. فالتعليم يأتي في حكم الضرورة الواجبة، فإذا لم يكن هنالك تعليم، فالمقابل هو التجهيل، لكنما الثقافة مُجرّد نشاط تلقائي يتّصل بأسباب الوجود الروحي في الإنسان على التعميم، يتفاعل معه، ويزيدُ دوماً من فاعليته ونشاطه وفي أعلاها القيم.
من أجل ذلك؛ فهى أبعد ما تكون عن أن “نتلقّاها” مفروضة، أو أن نستعيرها من أي أحد؛ لأنها خصوصيّة فرديّة شأنها في ذلك شأن سائر الخصوصيات التي ينفردُ بها الإنسان .. الثقافة – كالملكيّة – ليست منحة أو عطاءً، فهل يُقال في حق الملكيّة إنها تُمنح أو تُعطى، وكذلك الثقافة، لا يُقالُ في حقها إنها تمنحُ أو توهبُ بعطاء؛ لأنها من صنع الإنسان نفسه، ومن مجهوداته الذاتيّة، ليكون بها علامة على إنسانيته : تفرّدها وامتيازها، مقدارُ ما تكون علامة على خصوصيته : ترقيها أو انحطاطها، ولأجل هذا، كانت أكثر تعبيراً عن “الهُويّة” من غيرها.
فما ينطبق في هذا على الأفراد، ينطبق على الأمم والشعوب؛ فثقافة الأمم القديمة كأمم الهند وفارس والصين مثلاً ليست كثقافة الأمم اليونانية، وثقافة اليونان ليست كثقافة العصور الوسطى، وثقافة العصور الوسطى، إسلاميّة ومسيحيّة، مختلفة كل الاختلاف عن ثقافة العصريين : الحديث والمعاصر .
تعبّر الثقافة عن روح العصر ، وعن وعي الإفراد فيه، والمثقف في عصر من العصور القديمة ليس هو المثقف في عصرنا الحاضر، فإذا كانت روح العصر في الغالب تطبع أرواح القائمين عليه بطابعها، فإن ثقافة المثقف نفسه؛ فيما لو كان يعيش عصره ويفهم وسائل تقدّمُه وترقيه، تطبع بطابعها الخاص روح العصر الذي يعيش فيه، فكما يتأثر بهذه الروح العصرية، فهو كذلك يؤثر فيها، إن سلباً فسلب، وإن إيجاباً فإيجاب.
ومن أخلص لتلك الروح، وأجتهد في إدراك خصائصها ومعطياتها، استلهم روح العصر وتأثر بها وأثّر فيها إيجاباً، وقد يقوم بتغييرها فيما لو رأى جوانب السلب فيها طاغية على جوانب الإيجاب.
والفرقُ بين مثقف ومثقف، يكمن في القدرة على التغيير، فقد يكون أحدهما مثقفاً لكنه لا يتجاوز التقليد ثقافيّاً، هو مثقف نعم، لكنه ليس بأصيل في ثقافته، ليس مثقفاً على الأصالة، ربما يحيط علماً بمجموعة من المعارف، أو يكون مقتصراً على تخصصه وكفى، دون أن يمتلك الاستطاعة الكافية لتفريع هذا التخصص إلى جزئياته الدقيقة يتكوّن منها، ثم الارتقاء بها صعداً في نسق يجمعها تحت وحدة واحدة، أعني المبادئ العامة التي تشكلها ..
المعلومة، بدون رؤية وتوجُّه لا تعني شيئاً في الثقافة، والمعرفة المُجرّدة عن العمل خيرٌ منها عدمها؛ لأنها لا تغيّر، وما دامت لا تغيّر، فلا فائدة منها.
هذا النوع من المثقفين هو الذي يمثّل ثقافة الهمم الناعسة؛ إسهاماته النظريّة والعمليّة مقطوعة الصلة بعصره، لا يستشعر نبض العصر ولا حاجته الماسّة لكي يقول فيه كلمة يسمعها منه من يعيشون فيه. وبما إن ثقافة التقليد هى التي كانت ملكت عليه أقطاره، فليس ينطلق إذا هو أنطلق إلا منها، حتى إذا ما قال برأي، أو نادي بتوجُّه، لم يزد أمته؛ فيما لو أصاخت إليه، إلا نعاساً فوق نعاسها، وظلاماً فوق ظلمتها : رؤية مطموسة سوداء داكنة يقدّمها الناعسون المتخلفون عن روح العصر ويعيشون في الكهوف والمغارات، ولا يتورعون قيد أنملة عن الجمود والتقليد والمساهمة في زرع جرثومة التخلف بأوفى نصيب !
أما النوع الآخر من المثقفين، فهو ذلك المثقف الذي لا يعرف للتقليد مكاناً، ولا للجمود أو الركود طريقاً، بل رؤيته صادرة على الأصالة منه وحده دون سواه، يحمل من مشاعل الحماسة الروحيّة ما من شأنه أن يحطم به أغلال العبوديّة، فيُنهض أمته ويوقظها من ثباتها الراكد، يُنهضها غير أسيانة من فورها إلى العمل المنظم، ويكون هو أول من يتقدّم الصفوف ليبعث فيها مجدداً روح المقاومة والتغيير. 

ولا شك عندي في أن الفلسفة تسهم إسهاماً فاعلاً مؤثراً بالإيجاب في إثراء الروح اليقظة على الدوام، لتكون هي مصدر الحماسة الروحيّة في كل نشاط فاعل لأنها تمثل ثورة على كل جمود وركود بمثل ما تعطي للعقل مشاعل الحركة البناءة التي تدحر التقليد بمقدار ما تساهم في خلق روح التطور قدماً نحو الإرتقاء صعداً إلى التقدم المرجوُّ. مجتمع بلا فلسفة مجتمع جاهل متخلف ينهض إلى الوراء ولا يعرف للتقدّم طريقاً يرسو إليه. ومؤسسات لا تقيم اعتباراً للدراسات الفلسفيّة ولا لترقية العقول والأذهان هي مؤسسات فاشلة تحقيقاً لا تستشرف للمستقبل طوالع السعد، ولا تلقي بالاً إلى ذوق الجديد ممَّا يفيد ويرقي الأمم مع قيم العدالة والإنصاف.      
أعطيك مثالين فقط لرجلين يمثلان هذه النوعيّة من المثقفين في أمتين مختلفتين. الأول؛ هو المهاتما غاندي الرجل الحكيم الذي جسّد في شخصه أمّة بأكملها، فكان للهند نوراً ينير سدف الظلام، وضياءً تسيرُ فيه الأمة سيرها المُحقق نحو التّحرير.
والثاني : فيلسوف ألمانيا العظيم “فتشه” فيما قدّمه من “نداءات إلى الأمة الألمانيّة”، ذلك العمل الرائع الذي ألقاه في قاعة من قاعات جامعة برلين في شتاء سنتي ١٨٠٧- ١٨٠٨.
وبمثل هاتين الشخصيتين العظيمتين، تجيء مقومات الثقافة النشطة الباقية ويذهب كل ما هو ضدها من ثقافة الهمم الناعسة الخاملة.
إنّ هذه الثقافة الباقية لهى هى الثقافةُ نفسها التي بالحريّ أن يُقالَ فيها إنها، إذا هى كانت من شأن حياتنا الخاصّة الباطنة، فهي تجيء على الأصالة من صنع كل واحد منّا، يقدّها على قدّه، ويصوغها وفق طبعه، فمن هنا، تجئ قيمة الإنسان الحقيقية كامنة فيما عساه يضيفه في حياته : قيمته ليست في منصب زائل ولا جاه ولا مال ولا سُلطان، ولكن في إضافته للقيمة الباقية في حياته يستحق بها أن يكون إنساناً على الحقيقة.
ومن الخطأ الشائع إذن أن يُقال إننا مدينون بها إلى غيرنا. وإذا كنّا مدينين بثقافتنا إلى الإنسانية الماضية، فليس أقربُ إلى التّصور من أن نكون جادين حين نفي للإنسانية بهذا الدّين، إذا نحن عملنا جاهدين لتقدّمها في مستقبل الأيام.
رجالٌ أحيوا أمماً، وصنعوا شعوباً، وقاوموا التخلف والبلادة والركود وحاربوا الفساد والظلم والقهر والتسلط حتى نهضت شعوبهم وسادت، فلا أقلّ من أن يكونوا مدعاة للخلود؛ لأنهم مدعاة لكل رقي وتحضّر وصمود.
ــ القراءة والمعرفة : 
وتجدر الإشارة إلى أهمية فعل القراءة وهى تجرى تحت مظلة القيم العليا؛ فالقراءة فى حدّ ذاتها قيمة معرفيّة، وستظل قيمة معرفيّة كائنةً ما كانت تلك المعرفة، سواء تمثلت فى ثقافة العقيدة والدين أو ثقافة العقل والفلسفة. ولم يكن الأمر الإلهي بكلمة (اقرأ) بالأمر الهين البسيط الذى يُستغنى عنه مع الغفلة والتردي وسقوط القيم، ولكنه كان أمراً، ولا يزال، ذا دلالة تندرج فى ذاتها فى وعى معرفي تام؛ لتشكل نظام القيم، ثم لتصبح هذه القيم فاعلة فينا أولاً، ثم تكون أفعل فى حياتنا تباعاً، ذات أثر بيّن ظاهر فى السلوك وفى الحركة وفى الحياة، لا لتنعزل بالتجاهل أو بالإهمال عن حاضراتنا الواقعيّة.
لم يكن الأمر الإلهي «اقرأ» مُجرد كلمة عابرة وكفى، ولكنه نظام معرفي موثوق بمعطيات القيم العليا، متصل شديد الاتصال بنظمها العلوية الباقية.
قد لا نتجاوز الصواب إذا نحن قلنا إنّ مردّ جرثومة التخلف فى بلادنا إلى إهمال الأمر الإلهي «اقرأ»، فكأنما الأمر يقول: اقرأ كيما تعرف؛ لأنه لو أطيع الأمر الإلهي بالقراءة، لكانت المعرفة على اختلاف مطالبها وفروعها مُحققة لدى القارئ، وتحقيقها هو العرفان (أن تعرف)، ولا مناصّ منه مع فعل القراءة على اختلاف توجهاتها وميادين النظر فيها، وتسخيرها للعقل، وتسخير العقل لها، ولكل ما يعلوها، ويعلو بالإنسان مع المعرفة، ومع القراءة، ومع العلم فى كل حال.
إمّا أن نقرأ فنعرف، وإمّا أن لا نقرأ، فتنطمس أبصارنا وبصائرنا؛ فنتخلف ويقودنا التخلف إلى أدنى درجات التّسفل والانحطاط، وليس من وسط بين طرفين.
هذه واحدة.
أمّا الثانية؛ فإنّ القراءة تأتى بمعنى التحليل النقدي أو النقد التحليلي، وكلاهما قراءة على قراءة، لكن الفارق فيما يبدو أن الأول يشمل تحليل النّص المكتوب ونقد متونه وفحص إشاراته ورموزه.
والثاني: تصحيحُ لمسارات العقل فى أعماله من جهة كاتب النّص نفسه، ولذلك يتقدّم النقد فى هذه الحالة على التحليل، والمُرادُ به نقد الأدوات المعرفيّة، وأهمها وأولاها: تلافى القصور فى عملية القراءة نفسها وتصحيح مسار الذهن عن انحرافه بإزائها، ووضع الأطر التى تقوّمه فى طريقه بغير اعوجاج أو انحراف، الأمر الذى يترتب على هذا كله، أهمية التفسير من جهة وقدرة العقل على التأويل ثم التنوع فيهما بمقدار الكفاءة العقلية وتذوق المقروء والمكتوب.
وعليه؛ تصبح القراءة هى القاعدة التى يقوم عليها أساس البناء المعرفى بكل ما يصدر عنه من تفسيرات وتأويلات وتخريجات، تنصب فى النهاية فى خدمة ضروب المعرفة، وخدمة النصوص المُراد تصريفها وفق قدرات العقل فى التفسير والتأويل والتخريج. وليس بالإمكان أن يقوم النقد فى مجال من المجالات بغير قراءة واعية. فكما لا تقوم المعرفة العقلية الحصيفة بغير قراءة دائمة ينشط فيها العقل؛ فكذلك النقد الفاعل المؤثر لا يقوم إلا على شعلة القراءة ووهج العناء فيها. والناقد الجيد قارئ جيد بامتياز. والقراءة الناقدة بديهة حاضرة لا تخفى على أحد: هى ألزم سمات المنهج بإطلاق.
بقلم: د. مجدي إبراهيم
Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *