Share Button

حقوق المرأة المُسلمة في فقه المقاصد


بقلم : د. عصمت نّصار 

 

لم تكُنّ قضايا المرأة وحقوقها الإنسانيّة بمنأى عن إهتمامات “الطاهر ابن عاشور” في جل كُتبه بداية من تفسير (التحرير والتنوير) إلى كتاباته عن (علم المقاصد)، فأول ما تناوله من تلك القضايا هو ذلك الإتهام الكاذب الشائع في كتابات العوام المُتعصبين للذكوريّة وإدعاءات غُلاة المُستشرقين الذين تصيّدوا الآيات ذات الصلة بالمقابلة بين الرجل والمرأة في القرآن وأخرجوها من سيّاقها وحرفوا الأحكام الفقهيّة عن مواضعها وزعموا أن الإسلام فَضّل الرجال على النساء في نسق مُطلّق، فبيّن إذا كانت بعض الثقافات القديمة والفلسفات الكلاسيكيّة والوسيطة قد ميّزت الرجل وأعلت من شأنه وحَطّت من شأن المرأة وإتهمتها بالضعف والمكَر وربطت بينها وبين الدهاء والخِسة ومختلف الشرور، فإنّ الإسلام بمنئ عن ذلك الجُوّر الذي يآبه صحيح المنقول وصريح المعقول معاً، فقد خلق الله (آدم وحواء) من نفس واحدة، وكلفهما بواجبات إيمانيّة وعقديّة ومسالك دنيويّة تبعاً لقدرة كل منهما وطاقته وجبّلته، ويقول في ذلك :

(إنّ حظوظ النساء مساوية لحظوظ الرجال، إلا فيما خُصص به من أحكام قليلة لها أدلتها الخاصة، وذلك لإبطال ما عند اليهود من وضع النساء في حالة ملعونات ومحرومات من معظم الطاعات) كما نقض وسوسة حواء لآدم بإعياذ من الشيّطان في قصة الخلق والخطيئة الأولى التي وُردت في الكتاب المُقدس عند اليهود والنصارى، وتأثر بها بعض الكُتاب المسلمين، ويقول أيضاً (للنساء مزاياهن وحقوقهن كما للرجال، فمن تمنى مالم يُعد لصنفه فقد أعتدى).

ويُضيف “ابن عاشور” أن عدم مساواة المرأة بالرجل في الميراث والشهادة وعدم تكليفها بحمل السلاح في الحرب، يُردّ إلى جهلنا بالمفهوم الحقيقي للمساواة الشرعيّة المُتمثلة في نظرة الباري للمجتمع الإنساني باعتباره كياناً إجتماعياً متأخياً متضامناً متراحماً، وإنطلاقاً من هذه النظرة جعل التكليف وتوزيع المسئوليات بين الذكر والأنثى تبعاً لقدرة كل منهما من جهة ومؤهلاته لما كُلف به من جهة أخرى، كما أن لكل حُكمٍ علله وأسبابه تربط بينها علاقة لزوميّة فإذا غابت العِلة يَصُعب على المعلول تحقيق غايته والوفاء بالمقصد الإلهي، ويظل معيّار التقوى والعمل الصالح والإنصيّاع إلى الأوامر الإلهيّة هو معيار التفاضل بين الجنسيّن وحده.

وقد تَطرّق “ابن عاشور” إلى موضوع تعليم المرأة، وبيّن أن التراث الإسلامي يشهد بأن القرآن والسُنة والسيّرة النبويّة قد أعطت للمرأة حقوقاً لا نجد مثيلاً لها في ثقافات العصر الوسيط ومن أهم تلك الحقوق حقها في التعليم وتحصيل المعارف والمشاركة في المناقشة والتساجل، بل والتدريس أيضاً في أمور العقيدة والعبادات، وقد إشتهرت العديد من النساء في ميدان الفقه وعلم الكلام ورواية الحديث الشريف، ذلك فضلاً عن مشاركتهن في القضايا العامة في التربيّة والأخلاق وبعض العلوم الحرفيّة، والإنتفاع بخبرتها في مراقبة الأسواق،

وتستوي الحُرة والآمة في حق التعليم والتعلُم ومشاركة الرجال فيما حفظته وأستوعبته من العلوم الشرعيّة، وعليه فإن من يعزل المرأة عن المشاركة في أمور الحياة ويحجبها عن التعليم، يُعدّ آثماً لمخالفته أمراً حث عليه النبيّ وزكاه.

ويتفق “ابن عاشور” في ما ذهب إليه مع كل روّاد الإتجاه المُحافظ المُستنير بداية من “رفاعة الطهطاوي” إلى “أحمد لطفي السيّد” وتلاميذه. كما  أكد على حق المرأة في اختيار الزوج، وجعل موافقتها شرطاً لصحة العقد، ولا تُسلّب هذا الحق إلا إذا كان في إختيارها – موافقة أو منع – ضرراً أو خطراً عليها وذلك في أضيّق الحدود ولاسيّما مع اللواتي إكتسبن كمال (الباءة) ورجاحة العقل وسلامة العاطفة كما يَحقّ لها المُطالبة بفسخ العقّد إذا ما تبيّن لها عيّب أو عجز في من أرتضته زوجاً لها، وأوضح أن أمر الفسخ متروك لرغبتها ويندرج تحت الأمور المُباحة للزوجيّن.

وللمرأة أن تُطَلّق نفسها بعلم القاضي إذا ما غاب عنها زوجها أو هجر فراشها لمدة عام شريطة عدم انقاطعه من الإنفاق عليها ويكون غيابه أو حجره بسبب خارج عن إرادته، وتقدير الضرر والصبر عليه من عدمه مُباح أيضاً إذا ما تَفهّم القاضي أبعاد المسألة، ويجوز للرجل تطليق زوجته بغض النظر عن حالته المزاجيّة إلا في حالة الهذيان، كما يجوز للمرأة المُطالبة بهذا الحق إذا ما إستحالة العِشرة بينهما وهجر الوفاق حياتهما، وذلك بعد تحكيم الموثوق في رجاحة عقلهم وإطمئنان القاضي لما تَدعّيه.

ولا يجب على الزوج تطليق زوجته التي دخل بها وأنجب منها أطفالاً، إذا أُشيّع أنها أخته في الرضاعة وذلك لعدم توّفر الدليل، أما إذا ثَبُت ذلك فيُستَحب تطليقها.

أمّا الطلاق ثلاثة في مجلس وزمن واحد؛ فيرى “ابن عاشور” أنه من الأحكام الفقهيّة المُتفق عليها عند الجمهور (أي أن هذا الشكل من أشكال الطلاق يَقّع رغم تَسُرع المُطلِق وإلحاق ضرر جسيم بكيّان الأسُرة) إلا أنه يعوّد ويُبيّن أن هناك إجتهاد من بعض الصحابة والفقهاء المتأخرين بعدم وقوع هذا الطلاق البائن تبعاً لفقه المآلات، وهو يُخالف في ذلك “عبد المتعال الصعيدي” الذي ذهب إلى ضرورة توثيق الطلاق الرجعيّ حتى لا يكون لعبة من الأزواج الحمقى أو إجتراء على الشَرّع تلوكه الألسن الجاهلة، وإرتأى أن الطلاق ثلاثة لا يقع في جلسة واحدة؛ بل في أوقات متفرقة وبشهادة شهود، كما أشترط ألا تُردّ الزوجة في الرجعيّ دون إرادتها ولها أن تشترط ما تريد في عَقدّ جديد.

ولا يجوز للزوجة تعطيل نسّلها (أي إزالة الرَحِم أو الثدييّن أو التمنُع على الرجل بحُجة عدم الرغبة في الحمل والإنجاب).

وعن زواج المُسلم بالأغيار؛ فقد ذهب “ابن عاشور” أن للمرأة الكتابيّة نفس حقوق المرأة المُسلمة إذا ما أقترنت بزوج مُسلم، فلا يَحِق له إزدراء دينها أو نهيها عن أداء طقوس عبادتها أو صدّها عن كتابها الذي تُقدّسه وذلك على الرغم من مخالفة أهل الكتاب المُعاصرين لمُعتقدات المُسلمين ولاسيّما في أمور العقيدة، وللزوج الحق في مراجعتها في بعض المسائل الخاصة بتربيّة الأولاد حتى لا تشوّش معتقداتهم الإسلاميّة.

وقد رفض “ابن عاشور” أن تكون المرأة في بيتها مُهانة أو مُجبرة على طاعة الرجل، بل لكل منهما حقوق تحفظ لكل منهما إنسانيّته وكرامته ويقول في ذلك : (إن المرأة رفيقة الرجل، ولذلك سُميّ كلاهما زوجاً لأنه شفيع للآخر، وهي حليلته في البيت وكلاهما مأمور بِحُسن معاشرة الآخر، وبينهما حقوق مشتركة فللرجل على المرأة حقوق وللمرأة عليه حقوق، وقد أشار إلى ذلك القرآن المجيد في قوله تعالى : ” وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ ُ” (البقرة ٢٢٨).

وقد ناقش “ابن عاشور” مسألة ضرب الناشزات من الزوجات؛ فأوضح أن مسألة الضرب لا تعني أبداً أن للرجل الحق في إهانة زوجته أو الإعتداء عليها أو إلامها بل أن الشَارِع قد أورد مسألة الضرب في سيّاق الحديث عن الناشزات (أي المتمردات على الحياة الزوجيّة دون سبب أو مُبرر أو كراهة لم تصرح بها نتيجة لسوء المعاملة)، فقد شَرّع الله ذلك بعد النُصح ثم الهجر وأخيراً الضرب غير المُبرح رغبة منه في الإصلاح قبل أن يُطلقها حفاظاً على كيان الأسرة وصالح الأولاد، وبيّن “ابن عاشور” أن هناك بعض النِسوّة قد إعتدن في تربيتهن عدم الإستجابة إلى ما فيه خيرهّن أو الإلتزام بالواجبات المكلفات بها سوى بالضرب، ومن ثم لا يجوز للرجل اللجوء لهذا الفعل إلا إذا علم عن زوجته ذلك، ويأثم من يخالف الترتيب السابق في العقوبة أو جعل الضرب مُباح مع كل الزوجات دون ضوابط، ويُحرم على الأزواج جعل الضرب وسيلة للإقناع أو الإمتثال مع غير الناشزات المتمردات المعاندات لأن مثل ذلك يتعارض مع شروط عقد الزواج وما ورد في الكتاب والسُنة من حُسن المعاشرة والموّدة والرحمة بين الزوجيّن، علماً بأن هذه المسألة قد أثارها الفقهاء قديماً وأكدوا على أن يكون الضرب غير مبرحاً بالسواك أو باليد في الكتفيّن، ويُكّره دون ذلك مثل الصفع على الوجه أو إصابة العظام أو ترك علامات وجروح على الجلد، وأثارتها النِسوّة في العصر الحديث وذلك في سيّاق حديثهن عن حقوق المرأة، الأمر الذي دفع الفقهاء المعاصرين بإعادة مناقشة المسألة وملابساتها وشروطها لتبرئة الإسلام من عبث المُغرضين والجُهلاء.

ويقول “ابن عاشور”: (إنّ ضرب الزوجة لمجرد توقع نشوزها يخالف المعاني المذكورة للميثاق الغليظ المأخوذ من الزوجة على زوجها حين عقد النِكاح، فيكون من مقاصد هذا الضابط المحافظة على العلاقة الزوجيّة بدوام المحبة والأُلفة، وعدم مخالفة أمر رسول الله حين قال (أستوصوا بالنساء خيّراً).

وقد تأثر”ابن عاشور” في كل ما ذهب إليه بتفسير (المنار) للأستاذ الإمام “محمد عبده” وتلميذه “محمد رشيد رضا” في كتابه (نداء للجنس اللطيف ١٩٣٢م).

وعن حرية المرأة في تصريف مالها يرى “ابن عاشور” أن للمرأة الرشيدة ذات الخبرة بالشئون الماليّة الحق في تصريف ثروتها، بداية من إدارة ممتلكاتها بلا ولاية إلى حق التنازل في ما زاد عن ثلث ثروتها بعد مشورة زوجها دون إكراه منه  – وذلك أثناء توليه الإفتاء في تونس عام ١٩٢٧م -.

وقد أباح “ابن عاشور” للمرأة العمل خارج البيت دون الولايات الكبرى مثل الخلافة وقيادة الجيش والقضاء عند الجمهور، ويجوز إمامتها للنساء في الصلاة والقضاء في الأمور الخاصة بالنساء، وعن قضية حجاب المرأة ولِباسها وما يجوز كشفه من جسدها، يؤكد “ابن عاشور” أنه لا يجوز للمرأة البالغة أن تظهر عاريّة تماماً إلا لزوجها فقط دون غيره من نساء ورجال إلا عند التَطَببَ والمُدوّاة والجُلوّة، وهو جائز في أضيق الحقوق، كما يُباح للمرأة الخروج بشعرها وأطرافها حتى الركبة ووجها ورقبتها أمام المحارم فقط، ولا يجوز ظهورها أمام الأجانب إلا بالوجه والكفيّن، ولأهل الرأي التشدّد في لِباس المرأة درأ للمفاسد وذيوع العريّ بين النساء والدعارة والخلاعة وما شابه ذلك في المجتمعات الماجنّة، ومن أقواله في ذلك :(إنّ الذي يجب سَترِه من المرأة الحُرة هو ما بين السُرّة والركبة عن غير الزوج، وما عدا الوجه والأطراف عند المحارم، والمُراد بالأطراف الذراع والشعر وما فوق النحر، ويجوز أن تظهر لأبيها ما لا تظهره لغيره ما عدا العوّرة المُغَلَظّة وكذلك لإبنها، ولا يجب عليها ستر وجهها ولا كفيّها عن أحد من الناس).

أما عن مسألة تعدُدّ الزوجات والتساجّل الذي دار بين الفقهاء في العصر الحديث، فبيّن “ابن عاشور” أن التعدُدّ بوجه عام مُباح لا حرمانيّة فيه مع الإقرار بأنه لا يخلو من الضرر الواقع على الضرائر، وإذا كان الطلاق أبغض الحلال عند الله، فإن تعدُدّ الزوجات بلا مُبرر وضرورة هو مكروه أيضاً ولاسيّما إذا أقترن بخلوّ العدل بين الضرائر، أو كان إرضاءاً لشهوّة ومطامع جسديّة وإفراط في المُتعة، ولوليّ الأمر منع التعدُدّ إذا ما هدد إباحته كيّان الأسرة أوعَطُب في التربيّة والأخلاق أو إسراف الأثريّاء في التعدُدّ لإحياء نِحلة التثريّ والمتعة، ناهيك عن إرتفاع نسبة المُطلقات والمُتضررات من إستبداد الرجل الذي يفتقر للباءة.

وقد وافق مفكرنا على مدوّنة الأحوال الشخصية عام ١٩٥٦م في تونس، التي جاء فيها منع تعدُد الزوجات ويُجرم ويُعاقب من يخالف ذلك بالسجن لمدة عام، علماً بأن “محمد عبده” وتلاميذه من بعده قد دعوا جميعاً لترك موضوع التعدُد لوليّ الأمر (يمنعه أو يُبيحه) تبعاً لحاجة المجتمع وسلامة الأسرة.

وللحديث بقية عن إحدى قضايا الفكر العربي المُعاصر عند “ابن عاشور .

بقلم : د. عصمت نصار 

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *