Share Button

مكانة الحريّة بين المقاصد الشرعيّة والمواثيق المدنيّة 

بقلم د. عصمت نَصَّار 

يُخطئ من يتحدَّث عن مشروع النهضة العربيّة الحديثة التي شَيّد قادة الرأي والمُجددون بنائها ووضعوا أنساق بنيّتها، إذ أغفلوا شرح أهمية مبحث الحريّة في مشروعهم وفلسفتهم التي أهملنها ورَغِبنّا عنها، فوقعنا في أشرّ ما سَعيّنا للتطهر منه ألا وهو الإستبداد والتَجبُر والتسلُط، فقد أدرك المُجددون أن إحياء التراث وإنتقاء النافع من الأغيّار، وذلك للتوفيق بين الأصالة والمُعاصرة لا يُمكن أن ينجح إلا بالنقد والمراجعة، والمقابلة والموازنة، والهدم والبناء، والتفضيل والإستبعاد، وغير ذلك من الأمور العقليّة التي تَنشُد التثقيف والتقويم لا يُمكن وجودها إلا في مُتنفس من الحريّة، وقد انطلقت دعوة أولئك المُجددين من تحليل العلاقة بين العقل والإرادة الإنسانيّة والأوامر والشرائع السماويّة، وانتهوا إلى أن الله قد ميّز الإنسان عن جميع مخلوقاته بمسئوليّة الإختيار إلى درجة تخييّره بين الإيمان به أو الكُفر بوجوده (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (الكهف ٢٩)؛ وإنطلاقاً من هذه الحريّة التي فَطَر الله الإنسان عليها لا ينبغي على أحدِ أن يُفَرِط في حقه فيها أو يُساعد على إضعافها أو سَلبَها أو الحَجّر على المؤمنين بها، ثم راح أولئك المُجددون تدعيم خطاباتهم بالأدلة النقليّة والبراهين العقليّة على أن البوّح بالرأي ولغة الحوار ومنطق الشُورة والتقويم والإبداع وغير ذلك من آليات النهضة بل والحيّاة الكريمة، يَعتمِد في المقام الأول على رسوخ الحريّة بإعتبارها إحدى آليات العقل التي لا غنى لوجوده عنها، كما بيّنوا أن قواعد معاملتنا التي نُمارسها في كل شئون حياتنا وليدة الآراء الفقهيّة التي أجتهد علمائنا الفقهاء في وضعها بحريّة، تَبعاً لتَفهُم كل منهم بأيسّر السُبل لتحقيق المقاصد الشرعيّة وتَرغِيب العِباد في الحلال وتحذيرهم من المكروه والحرام؛ وذلك دون أن يَحجِر أحدهم على حريّة الآخرين أو السماح لأصحاب السُلطان قَمّع إجتهادتهم وإخراسّ ألسنتهم ولا ترك الجُهلاء إرتداء ثوب العلماء فيجترئوا فَيَضّلوا ويُضَللّوا، أوالمُتلاعبين بالعقول فيشككوا ويفسدوا، وأوضحوا أن مثل هذا الصَنيع هو الواقيّ للحريّة من عبث العابثين وتهور الماجنيّين.

وقد بيّن قادة الرأي من أعلام الإتجاه المُحافظ المستنير أن حريّة النقد هي المنهج المُعتبر للرد على غلاة المُستشرقين والمُتعصبين من المُبشرين والمُلحدين والمُرتابين وبيّنوا أن مُصطلح الإستبداد يَحمِل في بنيّته المعرفيّة التسلط والجوّر من جهة والحسم والحزم من جهة أخرى شأنه في ذلك شأن مُصطلح الحريّة فهي تجمع بين الفوضى والإباحيّة والتمردّ من جهة، والتخلص من الجوّر والتعبير عن الرأي وخَلقّ الإبداعات التي تَنشُد الصلاح والخيّر والتقدُم للفرد والمُجتمع وسائر الإنسانيّة من جهة أخرى.

وقد سَلكّ مُفكرنا (ابن عاشور) عيّن الطريق الذي مَهدّه المُجددون لتسير العقول المُبدعة آمنة مطمئنة فيه، وقد حرص كذلك على غرس مئات الأشجار على جنباته التي تَحمّل أغصانها قيّم الإلزام والإلتزام والحيّاء والعدالة والمساواة ومسئوليّة البوّح والصدق والفِطنة والتعقل والرويّة والورّع والوعي بسُنة الإختلاف والفارق بين التميّز والشاذ.

وقد حرص مع أنصار هذا الإتجاه أيضاً على ضرورة بناء سياج قوي يمنع الحمقى والجهلاء والمُتلاعبين بالعقول والمُدافعين عن العبوديّة وتُجار الرقيق وأرباب الهوى من المُجترئين والشاطحين والمُلحدين والفوضوييّن والإنتهازييّن من السيّر على هذا الطريق أو الإنتفاع بصوالحه أو الإختلاط بقادة الرأي الثائريّن على الجمود والجموح والجنوح.

لذا نجدّ “ابن عاشور” يُفرق بين المفهوم الحقيقي لمُصطلح (الحريّة) الذي بات من الكلمات التي تلوكها الألسن وتتردد على المسامع، وبين الإجتراء والجرأة والفوضى ونقض الثوابت العقديّة والإجتماعيّة والأخلاقيّة، مؤكداً أنّ هذا الخلط بين المفاهيم والدلالات الإجرائيّة هو الذي جعل من تلك الفِطرة وذلك المقصد الذي يُميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات، من الألفاظ التي يجب اجتنابها والعزوف عن ما يُكتب عنها وما فيها مخافة الإصابة ممّا تحمله من شرور تُهلك النفس المُطمئنة والمجتمعات الآمنة وتفتح باب الشك فيما لا يجوز الإرتياب فيه، الأمر الذي دفع الآباء والمُعلمين والفقهاء والساسة والمُربييّن إلى توخي الحذر في لَجّ أبواب الحريّة وكأنها إحدى مداخل الشيّطان.

ومن ثَم كان لزاماً على المُجددين والمعنييّن بإعادة تشكيل العقل الإسلامي الحديث تِبيّان الفارق بين عبادة الله التي أشترطت الحريّة للتصديق برُبوبيّته وبين العبوديّة التي تعني الخنوع والخضوع لسُلطة ما؛ طمعاً في منفعتها وتجنباً لسخطها والتي باتت ديدناً للنظريّات والعادات والمِلل والمذاهب المُعاديّة للعقل والتفكير والتدُبّر وحريَة البوّح، ويقول في ذلك : (لا تجدّ لفظاً تهواه النفوس وتهشّ لسماعه وتستزيد من الحديث فيه – مع أن معظمهم لا يضبط مقدار المُراد منه – مثل لفظ الحريّة، وما سبب ذلك التعلُقّ العام إلا أن معظم من يسمعون هذا اللفظ أو ينطقون به يحمّلونه على محامل يخُفّ محملها في نفوسهم، فالوقحُ يحسب الوقاحة حريّة، فيخفّ عنده ما يُنكره الناس من وقاحته، والجريء الفاتك ينمي صنيعه إليها، فيجد من ذلك مبرراً لجرأته، ومُحبّ الثورة يعِدّ الحريّة مسوّغاً لدعوته، والمفتون في إعتقاده يدافع النّاقمين عليه بأنه حُرّ العقيدة إلى غير هؤلاء، فيالله لهذا المعنى الحسن ماذا لقيَّ من المِحنَ، وماذا عُدِل به عن خير سُنن !!… هذه الحريّة الفسيحة لا يُقيّدها إلا بما يُقيّد بقيّة الحريات الأخرى، وهو قيّد المصلحة العامة، فما لم تسببّ مَضرّة للناس ولا للأفراد، وما لم تَضرّ بالآداب، وقواعد السلوك، والأعراف التي تَصَالحَ النّاس عليها، فهي مُباحة وإلا قيّدتها الشريعة بما يُحقّق التّوازن بين أفراد المجتمع، ويُحقّق أمنه وسلامته … والحريّة إنما يُعنى بها السلامة من الإستسلام إلى الغيّر بقدرٍ ما تسمح به الشريعة والأخلاق الفاضلة … والحريّة والمساواة أصل ناشئ عن عموم الشريعة، فالشريعة نَزلّت لخَلقّ الله كافة، نَزلّت للمُسلم وغير المُسلم، فهي للمسلم دين يتديّن به وقانون يُطِيعه، ولغيّر المُسلم ثقافة ودعوة يُدعى إليها، فإنّ قَبِلها دَخل في المُسلمين وصار له ما لهم وعليه ما عليهم، وإنْ لم يقبلها فهي الثقافة الحاكمة في المجتمع الذي يعيش فيه مع المسلمين).

ويستشهد “ابن عاشور” بسلوك النبي تجاه الأغيّار من الكُفار والمُلحدين وأرباب الديانات الأخرى، ويُبيّن أن التاريخ يشهد أن النبي لم يُجبر أحد من هؤلاء على الدخول في الإسلام، ولم يُعاقب المُرتدين والمُنافقين على ضلالهم، بل لخِداعهم ومحاولتهم إفساد ما استقر في إيمان غيرهم أو حمل السلاح والتآمر على المسلمين من بعد إنتمائهم ومسالمتهم بُغيّة الضرر بهم.

ويُضيف مفكرنا أن حرية الإعتقاد والفكر والسلوك التي كفلها الدستور المُحمديّ ليست مُطلقة ولا يُعاب عليها ذلك فكل الحقوق المدنيّة التي يُنادي بها الإنسان المُتمدن تحكمها قوانين وشرائع وعقوبات لمن يخرج على المبادئ التي أرتضى أن ينتمي إليها ويعيش تحت مظلتها لذا كانت المشيئة والإرادة الإنسانيّة شرطاً لصحة الإيمان، وأن القرآن والحديث الشريف شاغرٌ بالمواضع التي تأمر الإنسان بالتفكُر والتدبّر والبحث عن الإجابات للتساؤلات التي تَعِنّ له قبل دخول الإسلام.
أمّا المُسلم المُعاند الخائن المُتآمر والمُعادي للمِلة والمُجاهر بحربها يستوجب قتاله ويَحق عقابه وذلك نظير عدوانه وإزدرائه وتهجُمه على حريّة من داراهم ونافقهم وخدعهم.

ومن مظاهر حريّة الفكر والبوّح والمُراجعة عشرات الأحاديث النبويّة التي تجعل وظيفة الدين والمؤمنين به هو النُصح والإرشاد والهدايّة بُغيّة الصلاح وجعلت المُراجعة والتناظر والتساجّل والجدّل الحسِن هو أفضل السُبل للوصول إلى الحقائق وحل المُشكلات وتفسير ما التَبَسّ في أمور الدين والدنيا معاً، إلى حَدّ أن جعل المرأة تراجع زوجها وتناقش أصحاب العمائم وتثاقف الأئمة، وذلك لتأكيد المُساواة بين المتكافئين في العلم وفي الرؤية من ذَكرّ أو أنثى، وفي ذلك يقول “ابن عاشور” (ومن حريّة القول حق المُراجعة، من الضعيف للقوي، كمراجعة الإبن أباه والمرأة زوجها، وفي حديث “عُمر بن الخطاب” : (كُنا مَعشرّ قريّش نغلب النساء، فلمّا قَدمنّا على الأنصار إذ قومٌ تُغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبت عليّ إمرأتيّ فراجعتنيّ، فأنكرت عليها أن تُراجعني، قالت ولِمَ تُنكر عليّ أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبيّ ليراجعنه) وقد أخبر عُمر بذلك رسول الله فأقره على حق مراجعتهن … وقد راجع الصحابة رسول الله في أشياء غير التشريع فأجابهم ووافقهم).

كما جعل الشَارّع العلم والتَعلُم وهما من أكثر آليات الوعيّ والحريّة مشاعاً بين البشر ذَكّر وأنثى، حُراً وعبداً، مُسلم وغيره وذلك ليَنعّم المجتمع الإسلامي بمتنفس راقي بمنئ عن التسلُط والإستبداد والعَنتّ والتكبُر وفضيلة النقد، ومن ثّم بات الإجتهاد حق على من يملُك آلياته؛ وذلك في أمور الدين والدنيا معاً ( وتخويل أهل العلم نشر آرائهم ومذاهبهم وتعليمها، مع إختلافهم في وجوه العلم، وإحتجاج كل فريق برأيه ومذهبه، وحرصهم على دوام ذلك تَطَلُباً للحق، لأن الحق مُشاع).

ثم ساق “ابن عاشور” دليل آخر على أن الحريّة هي مقصد شرعي أصيل بأصالة حماية النفس والدين؛ إذ كشف عن حرص الإسلام على تحرير العبيد  فحَرمَ بيع الأباء المُعدميّن لأبنائهم وألغى عقوبة الإسترقاق – أي الحُكم على الحُر بالعبوديّة – وفي غنائم الحرب بين المُسلمين أو إسترقاق الفقيرات، وخَصَص أموالاً من بيت مال المسلمين لتحرير العبيد، وجعل لإلغاء الإسترقاق عدة منافذ منها الكفارات، والتعاقد مع العبيد بدفع قدر من المال للدولة على أقساط مقابل تحريره من مالكهم، والآمة التي حَملت بولد.

أما عِلة عدم تحريمه تجارة العبيد في الإسلام دفعة واحدة دون تدرج يرجع إلى أثر ذلك في تغلغل نظام العبيد في البنيّة الإجتماعيّة والإقتصاديّة؛ وذلك في المُجتمعات السابقة على الإسلام.

ويقول :(إذا تبيّنت ما تقدّم من البيان في أنحاء الحريّة تبيّن الحُكم البصير، عَلمت أن الإسلام بذل للأمة من الحرية أوسع ما يُمكن بذله في شريعة جامعة بين أنواع المصالح، بحيث قد بلغ بها حَداً لو أجتازته لجرّ إجتيازها إيّاه إلى إختلال نظام المدنيّة بين المُسلمين، أو بينهم وبين الأمم المُرتبطة بهم إختلالاً قوياً أو قليلاً، وذلك الإختلال قد يُفضي إلى نقض أصولها).

ومن أقوال “ابن عاشور” في الحريّة الزائعة التي تناقلتها الصُحف وأجهزة الإعلام المختلفة في فكرنا المعاصر (يُجمع الفقهاء على أن الشَّارع مُتشوّف للحريّة، وإستقراء ذلك واضح من تصرفات الشريعة التي دَلّت على أن من أهم مقاصدها إبطال العبوديّة وتعميم الحريّة … الحريّة وصف فطري في البشر، فإننا نرى المولوّد ييفع حراً لا يعرف للتقييد شبحاً … وهي خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقليّة متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق، لا يستطيع الإنسان أن يَكفُر إلا وهو حُرّ، ولا يستطيع أن يتكلم بما يريد غير خائف ولا وجلّ إلا وهو حُرّ، ولا يستطيع أن يعمل العمل النافع للناس في الدنيا إلا وهو حُرّ، فبالحريّة يحدث النماء لهذه القوى، قوى التفكير، وقوى القول، وقوى العمل).

وقد تَعمدّت الإكثار من أقوال “ابن عاشور”؛ لتتأكد شبيبتنا من أمريّن:

أولهما : أن جوهر العقيدة الإسلاميّة لا يُناقض من قريب أو بعيد الحريّة بكل أشكالها بداية من حريّة البوّح والإعتقاد والتفكير إلى حريّة السلوك والممارسة، وأن القيود التي وضعها الشَّارع في قرآنه ليست سوى الضامن والحافظ لهذه الحريّة من الشرور التي تتوّلد من العقول المريضة التي تخلط بين الداء والدواء في ثورتها وإندافعها، وكيف لا وقد أوضح مُفكرنا أن الحريّة مقصد من مقاصد الشريعة التي نؤمن بها.

أمّا الأمر الثاني الذي نُريد التأكيد عليه هو أن أيّ مُعارض أو مُناهض للحريّة بالمفهوم السابق الذي أوضحناه ليس إلا مُستبّد جائر أو جاهل مُعاند أو فوضويّ كَفَر بكل القيّم والضوابط التي تَحُدّ من أنانيّته وراديكاليّته وفاشيّته ومطامعه واغترابه.

والسؤال المَطرُوح هل يُمكننا إدراج إنتهازيّة التُجار وإسترقاق الأغنياء لمن يعملن في ممتلكاتهم، ومُروجيّ الشائعات والأكاذيب وإزدراء الأديان في كتاباتهم وعلى ألسّنة المُتعالمين والمُروّجين للرقيق الأبيض أمام الكاميرات، فكل هؤلاء تَحسبهم من أنصار الحريّة أم أعدائها في حياتنا المُعاصرة؟!

وللحديث بقيّة عن مقاصد الحريّة في الشريعة المُحمديّة.

بقلم : د. عصمت نصَّار

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *