Share Button

مكانة الحريّة بين المقاصد الشرعيّة والمواثيق المدنيّة (2)


بقلم : د. عصمت نَصَّار 

يَصعُب على من أنتهج النقد وجعله سبيلاً للتقويم والتجديد ومُثاقفة الأغيّار والخصوم وتنبيه الأذهان وتربيّة الشبيبة على فن مقاومة الرجعيّة والجمود والظُلم سواء من الحُكام المُتسلطين أو من عَنتّ الشيوخ الجامدين أو من تَجبُر المُستعمرين وأذيالهم من العملاء الخائنين، إرجاء الدعوة للحريّة بكل المعاني والدلالات المُنهاضة لقِلاع الإستبداد، وكيف لا وهي أحد أعمدة مشروع نهضة قادة الفكر في مُعظم الثقافات الحديثة الناهضة، لذا نجدهم يَلجوُن كل أبوابها في المجالس وعلى المقاهي تراهم يتحدّثون عن الإستقلال وحريّة البوّح والفكر والمرأة ويبتكرون العديد من ضروب المقاومة بداية من النُكتّة والمقامة والقصص الرمزي والخُطب الحماسيّة والمقالات الصحفيّة، ثم ربطها بالموروث الثقافي وجعلها حقاً فطريّاً من حقوق الإنسان وأصلاً من المقاصد الشرعيّة التي حرص عليها الباري مع تزويد البشر بنِعمة العقل والتدبُر والإختيّار.    

وقد تحدثنا في السطور السابقة عن دعوة “محمد عبده” وتلاميذه على ضرورة تبيّان الفارق بين الفوضى وإغتراء المُجترئين وإحتجاج العقلاء الثائرين على كل معوقات العقل من العادات والتقاليد والنُظم المُناهضة للحريّة بوصفها أجدّر آليّات التقدّم المدنيّ والضامن الأوحد للحفاظ على المُشخصات والسلام الإجتماعي والإنضواء تحت راية الهُويّة.

كما بيّنا أن مُفكرنا “الطاهر بن عاشور” قد أدرك عِظم مكانة الحريّة بين القيّم الإنسانيّة التي يجب على المُسلم قبل غيره التمسك بها؛ ليَصِح إيمانه ويستقيم سلوكه ويدفع المكاره عن نفسه ومجتمعه ودينه وعِرضه، وأدرجها ضمن المقاصد الشرعيّة التي لا غنى لأمة الإستجابة أو أمة الدعوة عنها، فأوضح أن القرآن الكريم قد حث في آياته على ضرورة تجنب مخارق الحريّة وسد كل مسالك ذرائع هدمها مثل النفاق والريّاء والمُداراة؛ لصدق حريّة البوّح التي تُؤدي إلى عبوديّة كريهة خوفاً من سطوّة أو طمعاً في مصلحة، فيقع صاحبها في مذلّة فتبيت من عوائده.

ويرى مُفكرنا أن أقبح هذه الرذيلة تلك التي تُصيب العلماء والقضاة وحاشيّة السلطان، فيؤلون ويُكَذِبُون ويجدفون ويرفعون الباطل ويمدحون الجاهل الرذيل.

وينتقل مُفكرنا إلى مَخرمّة أخرى يحسبها الفوضيون صورة من صور العدالة التي لا تنفصل عن الحريّة ألا وهي المُساواة الجائرة، وتبدو في مُساواة الجاهل بالعَالِم، والنابغ بالأحمق، والمُتقدم بالمدّلس، والحازم والحاسم الذي يستحق مقام الرئيس، مُبيّناً أن الإسلام لم يساوِ بين هؤلاء في حقه من الحريّة، وذلك حتى لا تصبح الحريّة مِعولاً للهدم وقوة غاشمة لا تعي الفرق بين البناء والهدم، ويقول في ذلك : (المُساواة تعتمد توفر شروط وإنتفاء موانع، فالشريعة التي تبني المُساواة على اعتبار الشروط والقيود شريعة مُساواتها ضعيفة، والشريعة التي تبني مُساواتها على اعتبار إنتفاء الموانع شريعة مُساواتها واسعة صالحة، ويظهر أن الدعوة الإسلاميّة بَنَتْ قاعدة المُساواة على انتفاء الموانع، وشَتّان بين قوة تأثير الشرط وتأثير المانع، والشريعة التي تُقيّد المُساواة بشئ شريعة مُضللة … فالمُساواة في الإسلام تتعلق بثلاثة أشياء : الإنصاف، وتنفيذ الشريعة، والأهليّة).

وراح  “ابن عاشور” – في سياق تبيانه الدلالة الشرعيّة للمُساواة التي تَكفُل الحريّة في المُجتمع الإسلامي – يضرب العديد من الأمثلة التي لم تنظر إلى العِرق أو النسب أو الجاه أو المِلة أو الإعتقاد في الأحكام بين المُتخاصمين، شأن الأمم الغابرة والعادات السالفة وأمثلة أخرى مَيّزت أصحاب المواهب والقدرات والمكارم والفضائل والدِربّة والدرايّة عن غيرهم، وذلك للإفصاح عن الدلالة الحقيقيّة للدرجات التي يتميّز بها الأفراد عن بعضهم تبعاً لما يؤدونه من معروف وفَلاَح يرضي الله والناس معاً فتتحقق بموجبها المُساواة، (فلم يعتبر الإسلام للطبقات أحكاماً في الأهليّة للكمال إلا في جعل الناس قسميّن : أهل الحَلّ والعِقدّ، والرعيّة، فأهل الحَلّ والعِقدّ هم ولاة الأمور وأهل العلم ورؤساء الأجناد، فهؤلاء طبقات إسلاميّة جُعل إليها النظر في إجراء مصالح الأمة ومن خصائصها انتخاب الخليفة، كما حدث في عهد الخلفاء الراشدين.

ولعلّ “ابن عاشور” قد ساق ذلك المثال لتوضيح أن مبدأ الشورى في الإسلام أفضل من الديمقراطية الأوروبيّة التي يُصورها المُتحمسون لها بأنها ذروة الحريّة؛ مُتغافلين عن تلك الفروق الفرديّة التي تجعل الحق في الفصل في الرأي لأربابه من أهل الحَلّ والعِقدّ دون غيرهم من الدَهماء الذين تستعبدهم المخاوف والمطامع معاً، وقد سبقه إلى ذلك “أحمد لطفي السيّد ١٨٧٢م – ١٩٦٣م ” خلال حديثه عن مفهوم الحريّة العادلة في الإسلام.

كما تَطرقّ مُفكرنا إلى المآخذ التي طالما غَمزّ وهَمزّ بها المُستشرقون حول مفهوم الحريّة في الإسلام، تلك المُتمثلة في عدم المُساواة بين الرجل والمرأة في الميراث والشهادة، وتولي بعض الوظائف، والحُرّ والعبد، والقَصاص بين المُسلمين والأغيار، وزواج الذِميّ بالمُسلمة، والعالم بالجاهل في العطاء والأقدم في شرف الجنديّة، وتقديم القُريشيّ على غيره في الإمامة. ووضح أن كل هذه المآخذ تُرَدّ إلى أوضاع اجتماعيّة وسياسيّة ومعيشيّة، ليست من صُلب العقيدة وتخضع جميعها لفقه المآلات والأوليّات والمقاصد المدنيّة.

ثم انتقل مُفكرنا إلى الإشادة بعبقريّة الإسلام في حِكمته القائمة على الحريّة والعدالة والمُساواة خلال بنائه لمُجتمع عالميّة الإسلام الذي جمع بين أجناس وديانات وعقائد وثقافات متبايّنة ونجح في تجييش نوابغ تلك الأمم في بناء حضارة الإسلام وأستطاع أن يُشعِر العقل الجمعي بقيمة التعاون والتآلف والسِلم والأمان؛ عوضاً عن منطق الغَاب والتناحُر والجُور وغير ذلك من مظاهر الإستبداد التي عانت منه تلك الشعوب.

وكذا عَلمّت تلك الحِكمة الأمم التي لم تدخل في الإسلام معنى السِلم والأمن وحُسن الجوار والصدق في العهود والوفاء بالمواثيق حتى بات المُجتمع الإسلامي يُضرب به المَثل بالمُدن الفاضلة في هذه الحِقبة التي تسيّدت فيها حضارة المُسلمين الذين عَبَرّوا عن وعيّهم بمفهوم الغيريّة ودلالته العمليّة التي تؤمن بأن صَلاح الإنسان هو صَلاح الإنسانيّة في تعاون أفرادها وشعوبها في بيئة بعيدة كل البُعد عن الأنانيّة والتعالي والنرجسيّة والفاشيّة والعنصريّة، وتُصور في الوقت نفسه إمكانيّة تَحقُق السلام العالمي والمُجتمع المثالي والأخوة الإنسانيّة في ظل الدستور الإسلامي، ويرجع ذلك لأن بُناة الحضارة الإسلاميّة أدركوا بفطنتهم أن الإنسان مدني بالطَبع، كما هو مشهور على الألسنة، وقد أدركوا ذلك في المقاصد الإسلاميّة التي آمنت بأن الإنسان قد خُلق بحيث لا يستقل بأمر نفسه، بل هو محتاج إلى مشاركة غيره من بني جنسه لظهور كثرة حاجاته الناشئة عن ضعفه الجِبِلِيّ وتفكيره، فالضعف الجِبِلِيّ جعله محتاجاً إلى مُكملات يصير بها قوياً على مُصادمة الكوارث والمهالك، والتفكير جعله مُتطلعاً إلى أن يعيش كما يحب لا كما يُلقى، وذلك بالمقام حيث يُريد دون إنزواء أمام الحوادث المُغتالة وبتحصيل ما لا يستطيع نواله مع فرط رغبته، فزاد بالتفكير ضعفه جلاءً، لأنه يطمح به إلى تمنيات وفروض لا يستطيع تحصيلها لعجزه، فأحتاج أفراد البشر إلى معونة بعضهم بعضاً لتحصل لهم من تفكيرهم وسعيّهم قوة التعاضد والتآزر، فيبذل كل ما يستطيع بذله من كدّه أو  من كسبه؛ عسى أن يحصل من مجموع سعيهم تحصيل معظم أماني الجميع، وبذلك التفكير والتعاضد أمتاز البشر عن أصناف الحيوان، واستوعبوا وعَلمُوا أيضاً (أن مُراد الله منهم أن يكون مُجتمعهم كاملاً ومدينتهم فاضلة؛ ليكون لهم من تقويم أحوالهم ما يُلائم أحسن تقويم خُلِقُوا عليه، الدال على أن الله تعالى حين خلقهم على أحسن تقويم قد أراد أن يكونوا مُتصفين بكل وصف قويم).

وقد إصطفى الله الأنبيّاء والعُلماء لتهذيب البشر وتربيّة مشاعرهم وعقولهم على الود والتسامح والرحمة والتأخي وغير ذلك من فضائل الحياة الكريمة التي تُبنى عليها المدن الفاضلة.

وقد أجرى “محمد فريد وجدي ١٨٧٨م – ١٩٥٤م” مثل هذه المُقابلة بين عالميّة الإسلام وتَصور فلاسفة الغرب للكوكبة أو العولمة الشاغلة بالعنصريّة والطبقيّة وجُل مُعوقات الغيريّة الإسلاميّة في كتابه (مهمة الإسلام في العالم) في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، ذلك فضلاً عن مقالات “عبد العزيز جاويش ١٨٧٦م – ١٩٢٩م ” عن حريّة الإسلام في العقد الثاني من القرن العشرين. وكتاب “أبو الحسن النِدَويّ ١٩١٣م – ١٩٩٩م ” (ماذا خسر العالم بانحطاط المُسلمين) في أواخر العقد الرابع من القرن العشرين.

ولا ريّب في أن “ابن عاشور” قد أوضح في حديثه عن الحريّة والمُساواة والتسامح والعدالة وحُسن الجوار؛ أوضح الكثير من المعاني والدلالات التي افتقدناها في مُجتمعنا المُعاصر سواء في عروبتنا المُهلهَلة أو وحدتنا الإسلاميّة المُمزقة أو في قيمنا الإنسانية الساقطة. ومن المؤسف أيضاً أن نجد نقائض تلك المُصطلحات تَتردد على ألسنة قادة العالم المُعاصر الذين فوّضهم الشيّطان في بناء وتسييّس المُدن الفاجرة التي طَرحت ضمائرها في أسواق النخاسة لقهر وإذلال المُستضعفين في الأرض واقتلعت التسامح والرحمة من مواثيقها، ودفعت بدماء الأطفال لأحبار بني صهيون؛ ليخطوا بأقلامهم السوداء ويجعلوها مِداداً لأحطّ شِرعة أستنها أحطّ المخلوقات في عالم ما بعد العبثية والسفالة والإنحطاط.

وللحديث بقيّة عن مآثر المُسلمين ومناقبهم في ظل عالميّة الإسلام.
بقلم : د. عصمت نَصَّار 

Share Button

By admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *