Share Button

فلسفة السؤال ورحلة الرجوع للأمام

(4)

بقلم : د. عصمت نصار

لقد تحدّثنا في المقالات الثلاثة السابقة عن الأطوار التي مرّت بها المعارف الفلسفية في مصر، المقررة على طُلاب التعليم الثانوي في القرن 20م. وبيّنا أنها أُدرجت في التعليم الثانوي لتأهيل الطُلاب للدراسات العقلية من منظور فلسفي من جهة، وتوجيه الراغبين منهم في القسم الأدبي للحاق بأقسام الفلسفة بكليات الآداب ودار العلوم والتربية في الدراسة الجامعية من جهة أخرى؛ للتوسع في دراسة الفلسفة ومباحثها ومراحل تطورها وقضاياها ومناهجها المعاصرة. وقد أنتهينا من تحليلاتنا للبنية المعرفية المقدّمة للطُلاب في الكُتب الدراسية إلى أن الخطاب المعرفي المنشود وفق الخطط التي وُضعت له من قبل قادة الرأي من أصحاب المشروع النهضوي المصري لم يتحقق إلا في النصف الأول من القرن 20م. ثم أخفق قادة الرأي من المعنيين بالدراسات الفلسفية في التعليم الثانوي عن مواصلة المسيرة نحو الغاية المنشودة حتى أصبحت الدراسات الفلسفية مجرد معارف تلقينية شأن (التربية الوطنية والتربية القومية والأخلاق وعلم النفس)، ولا سيما في فترة الستينيات وما بعدها.
ويرجع ذلك إمّا بسبب ضعف البنية المعرفية أو بتأثير من الأوضاع السياسية والإجتماعية والسلطات القائمة. ولم تتحول المعارف الفلسفية وتنتقل من طور التلقين إلى طور التوجيه وإعادة تشكيل العقل المصري إلا في فترات وجيزة. وانتهت هذه الفترة بمرحلة بؤس الفلسفة في العقدين الأخيرين من القرن 20م. فعلى الرغم من إدراج المعارف الفلسفية ضمن المقررات الدراسية للسنوات الثلاثة في المرحلة الثانوية إلا أنها لم تفلح في مجابهة المعوقات الثقافية ولا المشكلات الإجتماعية ولا المتغيرات السياسية ولا المسائل العقدية التي مازلت تحول بين العقل الجمعي والنهوض والتطور بمنآى عن التلقيد والتبعية والرجعية والعزوف عن التعصب والتفكير الخرافي والحملات التشكيكية التي كادت تجعل العقل يسلم بمنطق السفسطائيين، الذي يؤكد على غياب الحقيقة وصدق الأخبار والإعلاء من مبدأ الشك المطلق. وساعدت في تقدّم حرفية وتقنيات أكاذيب المجتمع الإفتراضي حيث حبكة الوقائع المغلوطة وإختلاق الأحداث وفبركة الصور وغير ذلك من القضايا التي مازالت أحوج ما تكون لمبادئ المنطق الحديث والتفكير الناقد ومنطق المغالطات وفلسفة اللغة والأخلاق التطبيقية والقيم المهنية.
والغريب أن البنية المعرفية للمقررات الدراسية لم تتغير في القرن الحادي والعشرين إلا في الشكل دون الجوهر فعلى سبيل المثال تغيير تقسيم مقرر الصف الأول الثانوي الأدبي حيث قًسم الكتاب الدراسي إلى كتابين دون أدنى تغيير في المحتوى وذلك في الفترة (من 2004 إلى 2006م) ثم عاد إلى ما كان عليه أي كتاب “مبادئ الفلسفة والمنطق والتفكير العلمي”. الذي أستمر بدوره حتى عام (2019 -2020م).
أمّا مُقرر الصف الثاني وهو كتاب “الفلسفة والحياة” تأليف : كمال نجيب الجندي ومصطفى النشار ومحمد أحمد السيد وآخرون، جاء في مقدمته أنه يشتمل على نماذج من مواقف الفلاسفة حيال طبيعة العلاقة بين الفلسفة والدين، والعلم، الحياة والأخلاق، السياسة والنظام الدولة ومفهوم الديمقراطية، ويعني ذلك أن بنية المقرر الدراسي كانت معرفية معلوماتية تلقينية في المقام الأول، وقد أنعكس هذا الطرح بطبيعة الحال على الأسئلة الواردة فيه. فعلى سبيل المثال :
س1: قارن بوضوح بين الحكمة العملية والحكمة النظريّة.
س2: ناقش أهم خصائص الموقف الفلسفي.
س3: كل ما يلي من أفعال التفلسف …عدا: (الدهشة، التساؤل، الإمعية، النقد، الشك).
أمّا مُقرر الصف الثالث الثانوي في الفترة الممتدة من (1996حتى عام 2015م) هو كتاب “الفلسفة والمنطق”، تآليف سماح رافع محمد ومحمد مصطفى البسيوني ومحمد مهران، ومراجعة أبو الوفا التفتازاني ومحمد فتحي الشنيطي.
ومن المثير للدهشة تأكيد القائمين على إعداد بنية المقرر الدراسي للثانوية العامة ومنصوص عليه في كتاب “دليل تقويم الطالب في مادة الفلسفة والمنطق” عام 2003م، أن الخطاب الفلسفي المنشود لدراسة المعارف الفلسفية هو :
(1) التأكيد على حرية التفكير وارتباطها بالتسامح في التحاور، وعدم التعصب الفكري، مع تكوين القدرة على الحوار العقلي السليم والمناقشة الهادئة، المدعمة بالأدلة الصحيحة. 2- التعود على إستخدام النظرة الكلية الشاملة في فحص شئون الحياة، وعدم الإكتفاء والتسليم بالعلل القريبة. 3- تكوين وجهة نظر شخصية عقلية تفسر أحداث الحياة، وتحدد موقف الفرد منها بطريقة إيجابية واضحة. 4- إبراز الفروق بين الأسلوب الفلسفي وأساليب التفكير الأخرى. 5- استخدام النظرة النقدية الفاحصة في تناول حقائق الحياة بدلاً من قبولها على عللها. 6- تأكيد ارتباط الفلسفة بحياة الإنسان وتأثرها بظروف المجتمع، وتأثيرها في تطوير الفرد والمجتمع.
7- إبراز النظرة النقدية وموقفها من المشكلات الفلسفية الأساسية. 8- دعم حقيقة اليقين، وتوضيح أهميته في حياة الفرد، ودوره في بناء المجتمع، وتأسيس البناء الديني الصحيح، وذلك من خلال دراسة مشكلة الشك واليقين. 9- التأكيد على أن الإسلام دين حرية تتمثل في صوره المعتدلة دون تطرف في الجبرية أو المبالغة في الفوضى والهمجية والتطرف باسم الحرية مع تبيان ارتباط هذه القيمة بالكرامة الإنسانية، وذلك من خلال معالجة قضايا حقوق الإنسان. 10- توضيح أن جوانب الإلزام الخلقي تتكامل فيما بينها في ضوء المنظور الديني الذي يقوم على الإعتدال، والذي يتضح في ثناياه معالجة مشكلة الإلزام الخُلقي).
وأعتقد أنه لا يختلف إثنان على أصالة هذا التنظير ودقة غايته وإلمامه بطبيعة المعارف الفلسفية ومهمة دراستها ومقصد وضعها ضمن المقررات الدراسية. غير أن بنية المحتوى المعرفي المقرر لم تفي بالغرض وذلك يرجع لعدم وضوحها وبساطة طرحها لكي يتمكن الطالب من إستيعابها وتفعيل مقاصدها في بناء شخصيته أو سلوكه داخل مجتمعه، أو الإجابة عن الاسئلة والإختبارات التي يتعرض لها بمنآى عن تكرار ما حفظه من معارف تلك البنية. ومن الأسئلة الواردة في نفس الكتاب، وتعبر عن ذلك الخلل هذه الأمثلة  :
س1: أنسب كل عبارة ممّا يأتي إلى الاتجاه الذي تعبر عنه ثم فسرها:
أ. أفعال العباد مكتسبة للعبد حسب إرادته ونيته.
ب. أفعال العباد مخلوقة لهم ونتيجة إختيارهم.
ج. أفعالنا وإرادتنا لا توجد ولا تتم إلا بتوافقها مع الأسباب المقدرة في العالم الخارجي.
د. “لا تناهي” الحرية يتحقق فقط في الذات الإلهية اللامحدودة دون الإنسان المحدود والمتناهي).
س2: أجب عما يأتي:
 حدد المقصود بالمصطلحات الآتية : الجبريّة – الحتمية – الحرية.
ب. هل ترى ثمة أختلاف بين مفهومي الجبرية والحتمية؟ وعلل لوجهة نظرك؟.
س3: حدد المقصود بالمصطلحات الفلسفية الآتية :
أ. الإلزام الخُلقي.
ب. السعادة في مذهب المنفعة.
ج. الأوامر الأخلاقية عند “كانط”)
وإذا ما حاولنا الوقوف على مضمون الإجابة عن هذه التساؤلات، فسوف نُدرك أن جميعها يعتمد على إستدعاء الذاكرة لمراجعة المعارف الملقنة والمحفوظة، وذلك بعد إستيعاب صيغة السؤال التي لا تخلو من الإلغاز أحياناً والغموض أحياناً أخرى.
وقد أجريت على متن كتاب “الفلسفة والمنطق” بعض التعديلات تحت إشراف حسن حنفى وعاطف العراقي ومصطفى النشار، وذلك في وزارة يسري صابر الجمل الذي تولى وزارة التربية والتعليم في الفترة الممتدة (من 2005 حتى 2010م) عام2005م. وجاء في أهدافه أن غاية دراسة المعارف الفلسفية الإهتمام بالكيف، وتنمية قدرات الفهم والتحليل والإبتكار والربط والمقارنة والنقد والتقويم والتعود على إتخاذ المواقف تجاه المشكلات والتعبير عن الرأي الشخصي والتعقيب على آراء الغير بوجهة النظر المدعمة بالأدلة الممكنة والمقبولة.
ويحتوي هذا الجزء على مذاهب فلسفية متعددة تعبر عن وجهة نظر الفيلسوف وظروف نشأته في مجتمعه الأصلي باعتبار الفلسفة وليد المجتمع، فلا توجد في الفلسفة وجهة نظر واحدة، وإنما تتباين الفلسفات باختلاف المجتمعات. وقد لُحظ التطور في منهجية الأسئلة التي وردت في الكتاب المُعدل فعلى سبيل المثال : أهتم واضعوا الأسئلة بتدريب الطالب على المقارنة بين المفاهيم ونقد المحتوى المعرفي لإتجاهات التفكير وكيفية استنباط الأحكام والتقييم من خلال الممارسة والتجربة الإستقرائية. فعلى سبيل المثال :
س1: أعقد مقارنة ووازن بين الأسلوب الخرافي والأسلوب العلمي. مع ذكر مثال.
س2: هات من عندك مثالاً لمشكلة ما؟ وطبق عليها الأساليب المختلفة للتفكير.
س3: هل ترى ثمة خلاف بين فكر الإنسان العادي والفيلسوف؟ علل لوجهة نظرك.
  وفي وزارة الهلالي الشربيني في الفترة الممتدة (من 2015 حتى 2017م) تم تغيير كتاب الفلسفة للصف الثالث الثانوي إلى كتاب “الفلسفة وقضايا العصر” تأليف كمال نجيب الجندي ومصطفى حسن النشار ومحمد أحمد السيد وآخرون. واستمر الكتاب بصورته الورقية حتى عام 2019-2020م. وجاء في أهدافه الإهتمام بالجانب التطبيقي من المعارف الفلسفية لإثبات أن الفلسفة لها تواجد حي يعيش الحياة مع الناس في كل النواحي العملية والعلمية والتكنولوجية. ومن ثم اهتم الكتاب بدراسة دور الفلسفة في قضايا البيئة والطب والإستنساخ والأخلاقيات المهنية والقيم التطبيقية، وباتت غاية الفيلسوف مراجعة ما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني العام أنطلاقاً من احتياجات الواقع المعيش ومُتطلبات المهنة أو الوظيفة التي تحدّد سلوك القائمين بها.
والجدير بالذكر أن القائمين على هذا البرنامج التعليمي قاموا بعقد مؤتمر بعنوان” الفلسفة التطبيقية وتطوير الدرس الفلسفي المصري” (قبيل تطبيق المقرر الجديد) وقد جمع بين مُعلمين المعارف الفلسفية والموجهين التربويين في الوزارة وأساتذة الجامعات المعنيين بمبحث الفلسفة التطبيقية، حيث نظم المجلس الأعلى للثقافة تحت رعاية وبحضور د. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة، د. محمد أبو الفضل بدران الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة هذا الملتقى، واشتمل على أربع جلسات ألقى فيها مشروع دراسة من قبل المعنيين بهذا الجانب العملي وذلك في يوم الأحد الموافق 26 يوليو 2015م. وقد قصد هذا التجمع شرح أبعاد هذا المبحث التطبيقي للمشتغلين بالتدريس وكيفية تدريب الطلاب على إستيعابه وممارسته. وقد دارت في جلساته العديد من المساجلات النقدية حول مصطلح الفلسفة التطبيقية وطبيعة تدريسها وبنية الأسئلة التي تُثار حولها أثناء عملية التدريس ووضع الإختبارات. وقد أدرك منظموا المؤتمر وعلى رأسهم مصطفى النشار مقرر الملتقى أن تغيير المقرر الدراسي على النحو المقصود يستلزم إجراء عشرات الحلقات البحثية والجلسات التوجيهية وذلك؛ ليتمكن القائمون بالعملية التعليمية من الوصول إلى الغاية المرجوة من تطوير المنهج.
وقد تعذر ذلك الأمر الذي أدى إلى إخفاق المُعلمين والمتعلمين من تحقيق الغاية المرجوة حتى الآن.
ولا ريب في أن هذه الوجهة العملية التطبيقية للفلسفة تتفق مع الثقافة المعاصرة السائدة بوجهٍ عام، والقضايا التي تشغل الواقع المصري بوجهٍ خاص. غير أن البنية المعرفية التي حواها هذا الكتاب لا تفي بالغرض من جهة، ولا تسير صوب المقصد مع تسليمنا بالجهد المبذول في إيجاز الأفكار والإبتعاد عن الحشو والإستغراق في التنظير من جهة أخرى. فإذا أستعرضنا أبواب الكتاب فسوف نجدها تنصب على: (الفلسفة وقضايا البيئة، رؤية الفلسفة للأخلاق البيولوجية والطبية، والفلسفة وأخلاقيات المهنة، والتفلسف وعلاقته بالقيم).
وأعتقد أنه كان من الأفضل أن تساعد بنية الكتاب على تحقيق غاية المحتوى المعرفي، أو بمعنى آخر أن تحاول الفلسفة الإجابة عن عدة تساؤلات أهمها: لماذا الفلسفة تطبيقية؟ ومدى أصالة هذا التوجه في تاريخ الفلسفة؟ وكيفية تطبيقه في حل مشكلاتنا البيئية والمهنية؟ ذلك فضلاً عن سلوكياتنا بوجه عام، مع التأكيد على خصوصية الوقائع والواقعات في الزمان والمكان والاعتبار بسلطة الثقافة السائدة. كما توضح أمرين أولهما : أن الخطاب الذي لا يحوي برهاناً ودليلاً على مشروعيته ونفعه، لا يحتاج منا عناء التفسير في العرض أو التبرير في الرفض.
وثانيهما: أن المبادئ الإلزامية التي لا تتفق مع الأساسي والضروري والأهم ينبغي الإعراض عنها وعدم إدراجها في قائمة الممكنات.
أما عن برنامج الأنشطة الملحقة بمتن كتاب “الفلسفة وقضايا العصر”، فهي على النحو التالي:
س1: اجمع العديد من التعريفات للفلسفة البيئية (مُستعيناً بشبكة المعلومات، وبمكتبة مدرستك)، وقارن بين هذه التعريفات والتعريف السابق، ثم:
أ. حدد نقاط الاتفاق بين التعريفات.
ب. حدد نقاط الاختلاف بين التعريفات.
ج. أقترح تعريفاً للفلسفة البيئية).
(س2: فكر في أكبر عدد من الأسئلة التي يمكنك طرحها في موضوع “رؤية الفلسفة للأخلاق البيولوجية والطبية” والتي تتطلب تفكيراً عميقاً).
(س3: أُكتب بحثاً مختصراً بعنوان “قيمة العمل في نهضة الأمم” وذلك بالإستعانة بشبكة المعلومات وبالكتب والمراجع الموجودة بمكتبة مدرستك).
(س4: تعاون مع زملائك في جمع أكبر عدد من تعريفات التفلسف، وذلك بالإستعانة بشبكة المعلومات ومكتبة مدرستك؟)
وأعتقد أن التغيير في طرح الأسئلة لم يُطبق إلا على الأسلوب والصياغة أم مضمون السؤال فيعتمد في المقام الأول على المعارف والبيانات والمعلومات الواردة في بنية السرد وهي تلقينية بطبعها. ويكمن الخلل في منهجية العرض والمعالجة التي شكلت بنية المحتوى المعرفي، فعلى سبيل المثال : أين التدريب على كيفية التفكير الناقد الذي يمكّن الطالب من المُفاضلة بين التعريفات المطروحة والحلول الإيجابية للمشكلات العملية.
(وللحديث البقيّة)
عن الوجهة النقدية لطبيعة العلاقة بين فلسفة السؤال والسؤال الفلسفي.
بقلم : د. عصمت نصار
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *