Share Button

فرّق الأصنام !!

بقلم : د. مجدي إبراهيم

لأبي حيان لتوحيدي عبارة عنيفة يضعها في صيغة استفهام استنكاري فيقول فيها مستنكراً :

إلى متى نعبدُ الصنم بعد الصنم كأننا حُمُر أو نعم ؟

حُمُر يعني (حمير) . ونعم، أنعام، حيوانات مفترسة في الباطن تظهر في صور آدميّة : كراهة، ونفاق، وكذب، ورياء، وجشع، وطمع، وتصنّع وقلة أدب، ليس فقط في إطار التعامل مع الناس، ولكن أيضاً في محيط العلاقة مع الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

غيبة الصدق من المعاملات والعبادات، يخلف في القلوب سواداً يبث كراهية ونفوراً.

وما تمثلت الأصنام عبادةً بمثل ما تمثلت في الأهواء. وعبادة الأهواء من أكثر العبادات اعتراضاً لطريق الله. فما خالط الهوى شيئاً إلا أفسده، حتى إذا ما وقع في الدين أخرجه من السُّنة إلى البدعة. وإذا وقع في العلم أخرجه من نور المعرفة إلى غطيط الجهالة. وإذا وقع في العبادة أخرجها من شهود الحق إلى رؤية الباطل.

ما خالط الهوى شيئاً إلا أفسده !

الهوى صنمٌ معبود لا يتخلص من عبادته إلا أكابر العارفين الخُلص، قال الإمام أبو الحسن الشاذلي، رضوان الله عليه: “فرّق الأصنام عن قلبك، وأرح من الدنيا بدنك، ثم كن كيف شئت”.
فكأنما كدّ البدن وتعب الأنفس، مردّهما إلى اجتماع الأصنام في القلب : عبادتها وقداستها والتفكر فيها صباح مساء. والمرادُ بها شواغل الدنيا الحاجبة عن شهود الحق في طلب الحق؛ فمتى خلص العبد من رق الأغيار بغير أن يتحكّم فيه الهوى، أو يحتكم عليه، استطاع تفرقة الأصنام المعبودة المتكثرة أمامه : صنم المال، صنم الجاه، صنم الشهرة، صنم المجد الزائل والنفخة الكدّابة، وصنم الهلاوس البصرية والسمعية، وصنم الدعوى العريضة الكاذبة تقوم في الناس بغير دليل، وصنم التعلق بالدّون في عالم الشهوات، وصنم الأمراض الباطنة من الغل والحقد والحسد والكراهية، وأصنام كُثُر ظاهرة وباطنة، وهو مطلب عزيز نادر ليس بالهين السّهل المستطاع.
من فرّق الأصنام عن قلبه، زادت معرفته بنفسه فعرف ربه، ومن جعلها في قرارة ضميره ومستقر فؤاده، أكلته كما النار تأكل نفسها إنْ لم تجد ما تأكله.
عندي أنه : ليس للدين ولا للعقيدة قيمة ذات أثر يُذكر ما لم يكن النزوع العملي التطبيقي فيها يتلازم بالضرورة مع الفكرة النظريّة؛ فليست المعرفة المُجرّدة بكافية عن لواحق السلوك والتطبيق؛ بل جوهر الدين ولبُّه هو العمل؛ هو الحياة العاملة. انظر إلى قوله، صلوات الله وسلامه عليه :” اعْلموا ما شئتم أن تعلموا، ولكنكم لن تؤمنوا حتى تعملوا “.
انظر كيف قَرَنَ صلوات الله وسلامه عليه الإيمان بفضائل العمل، وفصل بين العلم الذي لا عَمَلَ فيه عن الإيمان، مع أنه أعطى الحق لمشيئة العالم في أن يعلم ما يشاء كيف يشاء، ولكن هذا كله شيء، والعلم الذي يتحوّل فيه العمل إلى إيمان شيء آخر، والعكس صحيح كذلك؛ فلا مناصّ من تحول الإيمان إلى عمل ليثمر؛ لكأنما الفكرة النظريّة يقولها المتكلم أو الكاتب كلاماً مجرّداً عن الفاعلية العمليّة أو عن الممارسة التطبيقية تجيء لا لتكون حياة حيّة؛ بل لتكون ضرباً من النظر الأجوف الذي لا طائل من ورائه، إنّما هى لغو فضول وترهات عجائز.
هنالك يتحوّل الفكر إلى صنم يعبد ليس فيه حُريّة، يمارسه سدنة الكهانة، ولا يمارسه الأحرار من المفكرين.
شرط ممارسة الفكر هو إتاحة أكبر قسط من الحرية. أمّا الأصنام والكهانة فهى ضد عمل العقول المفكرة.
أنا شخصياً يُخَيّل إليَّ أننا لا نعبد الله على الحقيقة؛ بل نحن عَبَدَةُ أصنام وأوثان! وأنّ قلوبنا بحاجة شديدة إلى تفرقة الأصنام عنها ممّا لحق بها من عبادة الصنم بعد الصنم : صنم السّلطة، وصنم المال، وصنم العلم، وصنم الدين، وصنم الجاه، وصنم النفوذ، وصنم الزعامات الموبوءة، وصنم السّطوات الضاغطة على الطبيعة البشرية، وأصنام كُثُر وأوثان كُثُر وأرباب كُثُر؛ فكما أن لكل صنمه يتمثله فيعبده ويتوسّل إليه صباح مساء بوسائل القربات؛ فلكل ربه يتخذه من دون الله معبوداً على هواه.
أما سيّد الخلق الذي وَهَبَ الحريّة للإنسانيّة، وحطّمَ الأصنام والكهانة؛ فهو نفسه صلوات الله وسلامه عليه مَنْ أستقل بكرامة الإنسان عن سطوات الأغيار، وعن عبادة الأصنام، وعن أغلال قيودها المستبدة، ومضى يُبصِّره بكشف حقيقته الإنسانية كشفاً من جديد في ضوء البذرة الإلهية فيه، وفتح ضميره مستقلاً عن التّعلُّق بغير الله والعمل من أجله، واستغلال الطاقة الإنسانية والعمر البشري في تحصيل ما بقىَ من كرامة الفرد في رحاب الله.
فمن خطبه، صلوات الله وسلامه عليه، وهو معلّم البشرية .. أيها الناس:
إنَّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإنَّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم؛ فإنّ العبد بين مخافتين : أجل قد مضى لا يدري ما الله فاعل فيه، وأجل باق لا يدرى ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه ﻵخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، فو الذي نفسُ محمد بيده : ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلّا الجنّة أو النار. صلوات الله التامات وسلامه عليه :
وعلى تفنن واصفيه بحسنه     يبقى الزمان وفيه ما لم يوصف
لابدّ لنا من ملاحظة سريان الوعي العالي في أدب الخطاب النبوي، وهو خطاب يحمل بين طياته وضوح الحقيقة وجلائها من جهة، كما يحمل في الوقت نفسه خفاءَها وسريتها من جهة أخرى. ولا بدّ من ملاحظة أنه من الأخطاء التي تتردد دائماً خطأ اعتبار أن كل خفاء وسريّة هما خارج نطاق الوعي، وبالتالي فلا يمكن للوعي أن يمثله أو يُعبر عنه أو يعكسه في الحقيقة واقعاً مشهوداً للأبصار. هذه فكرة غير صحيحة بالمرة؛ لأنها وإنْ انطبقت على الوعي العادي المحدود، فلا يمكن بحال أن تنطبق على الوعي العالي غير المتناهي وغير المحدود، وهو هنا وعي النبوة ووعي الولاية.
الوعي العالي شأنه أرفع وأسمى في ملكة الإدراك : دائماً ما يُمْسِك بالنهايات ولا يتناهى في ذاته؛ ولكونه لا يتوقف عند المنتهي، فهو لا يتناهى بالتفكير المشروط؛ لأنه غير محدود بحدوده على الإطلاق؛ إذْ إنه وعي يدرك ما لا يدركه الوعي العادي المحدود.
وعي النبوة يحيطك بعالم الحقيقة في كلمات قِصَار نافذة، فهو يهدف هنا مباشرة إلى تقدير العمر البشري واغتنام اللحظة الفاعلة فيه، المؤسسة عليه. وليس يمكن تقدير العمر البشري بغير الانتباه إلى هذه المعالم المحددة ووضعها في الاعتبار : وأن هذا العمر محدود، له نهاية لا بدّ من الانتهاء إليها. ومخافة العبد حين يضع في الاعتبار تقدير العمر الإنساني لا تتعدّى إمّا الأجل الذي مضى منه ليس يدرى ما الله فاعل فيه، وإمّا الأجل الباقي الذي لا يدري ما الله قاض فيه.
وعلى العبد إذن بين هاتين المخافتين أن يقدّر عمره، وأن يحسب للحظاته ألف حساب وحساب، وأن يعرف عدد أنفاسه فيه؛ ليغتنمها فيما بقى ويتدارك منها بالتوبة والاستغفار ما مضى.
يلزمه هذا أن يسقط التدبير مع الله، ويلزمنا نحن أن نشير إلى حكمة ابن عطاء الله السَّكندري التي تقول :”مَا مِنْ نَفَسِ تُبْديه إلَّا ولله عليك قَدَرٌ يمضيه”؛ فإنّ الأنفاس أزمنة دقيقة تتعاقب على العبد مادام حياً؛ فكل نفس يبدو منه “ظروف” لقدر من أقدار الحق تعالى ينفذ فيه كائناً ما كان، فإذا كانت جزئيات العبد ودقائقه قد استغرقتها أحكام الله تعالى وأقداره، وكان جميع ذلك يقتضي حقوقاً لازمة من حقوق الله الواجبة عليه، يقوم بها وهو مطالب بها ومسئول عنه، وعن أنفاسه التي هى أمانة للحق عنده، لم يبقْ له إذْ ذاك مجال لتدبير أمور دنياه ولا محل لمتابعة شهواته وهواه.
ومعنى إسقاط التدبير : إسقاط الشواغل الدنيوية الحائلة دون التدبُّر المحمود في أمر الدنيا والدين. أي : إسقاط شواغل التدبير في العواقب، وما عسى أن تنتهي إليه.
وليس من شك أيضاً في أن تقدير العمر البشري لهو تقدير لزمن الحياة الإنسانية على هذه البسيطة. والعمر نفسه ليس إلا دقات قلب المرء بين زمان وليّ وانقضى وزمان محدود لا يدري المرء ما الله قاض فيه.
الوعي النبوي يختصر الزمن كله في عبارة موجزة معجزة، دالة، ثاقبة الرؤية، ومحددة الاتجاه كما البوصلة المرشدة إلى صحيح الطريق. وعن هذا الوعي العالي يأتي أدب الخطاب النبوي كما تجيء الرسالة : قيمة ودلالة.
فَرِّق الأصنام، واغسل قلبك بذكر مولاك، وتجرّد لنعم الله فيك، فلا يحصيها كثرة الشكر مع المواصلة.
بقلم : د. مجدي إبراهيم  
Share Button

By ahram

جريدة اهرام مصر .موقع ويب اخبارى واعلامى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *